في غمرة الحرب مع داعش والانقسامات التي يشهدها العراق مهددة نسيجه الاجتماعي تقول قرية عراقية صغيرة على نهر الفرات إنها وجدت طريقة لتحصين أهلها من الحرائق المحيطة بها.

إعداد عبدالاله مجيد: أعلنت قرية البوناهض التي تبعد نحو 160 كلم جنوبي بغداد أن النقاش السياسي أو الديني ممنوع، وكذلك التدخين والمشروبات الغازية للأطفال والتزمير وقطع الأشجار.

وتبدو هذا الممنوعات ناشزة في بلد مثل العراق تعتبر النقاشات السياسية بين مواطنيه وسط دخان السجائر أقرب الى الهواية الوطنية. وعادة ما يمضي العراقيون ساعات في المقاهي يتجادلون بجانب منفضات عامرة بأعقاب السجائر أو على ايقاع قرقرة النرجيلة حول آخر نظريات المؤامرة ومناورات قادتهم السياسيين.

الصحة العامة والوحدة!

ويؤكد سكان قرية البوناهض البالغ عددهم نحو 500 أن الغرض من قواعد السلوك التي بدأ تطبيقها في قريتهم هو حماية الصحة العامة والحفاظ على وحدة مجتمعهم الصغير في زمن الحرب والانقسام.

ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن كاظم حسون وهو مهندس كان من دعاة القواعد الجديدة لسلوك أهل القرية "ان الجميع يتأثرون بما يجري في البلد، ونحن نعرف الوضع في العراق حرب وسياسة، فما فائدة الكلام عنه؟" واضاف ان توترات تحدث عندما يحاول المرء فرض أفكاره.

وفي حين أن محافظات العراق الجنوبية ظلت عموما بمنأى عن المعارك المستعرة في شمال العراق وغربه فان الحرب تبقى موضوعا ساخنا في المجالس العامة في مدن الجنوب. ولكن قرية البوناهض لم تكن معزولة عما يجري بل ارسلت شبابها للانخراط في الجيش أو قوات الحشد الشعبي وبذلك تكون الحرب ضد داعش دخلت بيوت القرية.

ما الجدوى؟

ويقول المهندس حسون بشأن منع النقاشات الدينية "ما جدواها؟ فالأحزاب الدينية تحاول دائما ان تضغط على الناس. والنقاش الديني مسألة خطيرة". وعلى الجانب الآخر من المضيف المصنوع من قصب البردي حيث كان يجرى الحديث أومأ عبد الله كاظم صكبان البالغ من العمر 74 عاما بالاتفاق مع هذا الرأي.

وقال صكبان "بعد عام 2003 جاءتنا الديمقراطية وصرنا نتكلم، ولكن كثرة الأحزاب أحدثت انقسامات". واضاف "نحن نتجنب الحديث عن أمور يمكن ان تفرقنا ونريد ان نبقى موحدين". وتساءل صكبان "كيف دخل العدو مدننا؟ لأنها كانت منقسمة، كانت فيها خلافات".

الدين كالبحر

وأوضح الشيخ صكبان أن قواعد السلوك التي لا تشجع على النقاشات الدينية ليست ضد الدين. وقال لصحيفة واشنطن بوست "إن الدين كالبحر، عميق" مقترحا ترك الخوض في تفاصيله للفقهاء.

ورغم ان قواعد السلوك دخلت حيز التنفيذ مؤخرا فان التدخين كان عادة غير مستحبة قبل ذلك في هذه القرية الناعسة على ضفاف الفرات. وأسهم في تكريس هذا الموقف من التدخين والد المهندس حسون الذي بوصفه أحد وجهاء القرية كان يدعو الى الابتعاد عنه لأسباب صحية. وحين عاد ابنه كاظم الى القرية بعد العمل في احدى دول الخليج واصل رسالة والده في التوعية بأضرار التدخين على الصحة.

وقال حسون إنه بدأ يشيع ثقافة رياضية ايضا بالتشجيع على ممارسة الركض وركوب الدراجات ولكنه اعترف بأن ذلك "لم يكن سهلا". وأوضح حسون ان الناس كانوا حين يرون شخصا يركض في الشارع يعدون ذلك سلوكا غريبا او شاذا. واضاف "الآن كسرنا هذا الحاجز". وتصطف اليوم دراجات هوائية خارج مبنى مجلس القرية.

ونظمت قرية البوناهض سباقا ترفيهيا في الجري، وبمناسبة يوم البيئة في وقت سابق من هذا العام أقامت فعالية مماثلة في ركوب الدراجات لمسافة 20 كلم. كما أشرف حسون على زرع 300 شجرة. وتحت نخيل القرية بدأ مزارعوها يربون النحل ايضا. وتخطط القرية الآن لاطلاق مكتبة متنقلة.

منع المشروبات الغازية

ومُنع تقديم المشروبات الغازية الشائعة بين العراقيين الشغوفين بالسكر أو بيعها الى الأطفال. وضحك الفتى عباس كريم حين سألته صحيفة واشنطن بوست متى تناول مشروبا غازيا آخر مرة قائلا "قبل شهرين".

في متجر القرية لا توجد علبة سجائر واحدة على الرفوف رغم وجود علب من المشروبات الغازية. وأكد حسون أن القواعد الجديدة لم تواجه مقاومة تُذكر. وقال "كانت هناك أصوات قليلة جدا ضدها ولكننا لم نستمع الى مثل هذه الأصوات".

وتبدو قرية البوناهض جزيرة في بحر حين يتعلق الأمر بنبذ عادة التدخين. ففي كل مكان من العراق، من الدوائر الرسمية الى سيارات الأجرة، ليس هناك منع للتدخين. وقُدِّم مقترح في البرلمان لمنع التدخين في الأماكن العامة ولكنه لم يجد طريقه الى التنفيذ.

واعترف حسون بأن بعض سكان القرية ربما يدخنون بعيدا عن الأنظار، كما تشير اعقاب السجائر المرمية في الشارع.

ولا تسري هذه القيود على الضيوف ولكن رياض الشاهر وهو فنان زائر للقرية قرر ان يمتنع مقاوماً رغبته الشديدة في التدخين. وقال "أُريد حقاً ان أُدخن ولكني لن أفعل ذلك من باب الاحترام". واعترف الشاهر بأنه سيجد صعوبة في العيش في القرية قائلا "أنا فنان ويجب ان أُدخن".

تغيير العادات

ولا يقع المخالفون تحت طائلة العقاب بل يجري تشجيعهم على تغيير عاداتهم، كما أكد اشخاص من أهل القرية. ولكن إذا استمر البعض من سكان القرية في مخالفة القواعد الجديدة قد يتعين عليهم لاحقا ان يقرروا ما إذا كانوا ينتمون اليها.

وقال الشيخ صكبان "في البداية سنتعامل معهم برفق ولكن عليهم ان يقلعوا وبخلافه يجب ألا يعيشوا هنا. فان غالبيتنا نكره التدخين ونكره النقاش السياسي وهكذا يجب ان يكون".&&