بقلم الدكتور عودة أبو ردينة

يردّد كثيرون من المعلّقين والمحللين عبارات مثل «استراتيجية»، و «رؤية استراتيجية»، و «عزم استراتيجي»، وما الى ذلك، فما هو المعنى الحقيقي لمثل هذه التصورات الاستراتيجية؟

الجواب عن ذلك بسيط في صياغته لكنه معقَّد في فهمه. فلكي يكون هناك شيء اسمه «استراتيجية»، يجب أن يكون هناك شيء اسمه «سياسة». فالذين يرددون كلمة «استراتيجية» من السياسيين والمعلقين الصحافيين، إنما ينطقون بها كشعار مما ينبئ بعدم فهمها. فالاستراتيجية ليست شعاراً، أو كلمات نارية حامية، أو خطاباً متبجِّحاً، أو وسيلة للمخادعة والتعمية. وبالتالي، فإنه لا يجوز خلط الاستراتيجية مع الكبرياء والاعتداد بالنفس، لأن مثل هذا الاعتداد بالنفس كثيراً ما أدى الى كوارث وهزائم عسكرية مروِّعة زُهقت فيها ملايين الأرواح، وأسفرت عن سقوط إمبراطوريات وأنظمة.

في ذلك يقول برنت سكوكروفت، أحد أهم الاستراتيجيين الأميركيين الذي كان مستشار الأمن القومي للرئيس جورج بوش الأب من 1988 الى 1992: «الاستراتيجية هي نقطة تلاقي التصوُّر مع الفعل. ففي مضمار السياسة الخارجية، تتطلب الاستراتيجية الجيدة تفكيراً صافياً وواضحاً حول الأهداف والغايات البعيدة المدى، بمعنى تحديد المرامي النهائية التي يريد أي بلد بلوغها في العالم. لكنها تتطلب أيضاً قدرة على تحويل التصورات الى مبادرات يومية ملموسة قادرة على دفع سفينة الدولة الى الاقتراب من غاياتها بصورة مستمرة. ولذا، فإن الاستراتيجية تتعلق بالتنفيذ بما لا يقل عن القدرة على وضع المفاهيم لجعلها تقليداً. إنها مسألة عملانية بقدر ما هي مسألة مفاهيم فكرية».

ويشرح البروفسور هال براندز، الأستاذ في جامعة «ديوك» الأميركية، مقولة الجنرال سكوكروفت هذه بالإضاءة على قدرته الأساسية من حيث «الموازنة& بين الحاجة الى استخدام القوة بحزم من جهة، وضرورة تخفيف ذلك الحزم بالحصافة ورجاحة التفكير من جهة ثانية». فهو لم يتردد لحظة واحدة في التصرف بجرأة عندما لاحت الفرصة بظهور بوادر تعرُّض المصالح الأميركية الحيوية للخطر فور ظهور أزمة الخليج، على سبيل المثال. فقد نشط أكثر من أي شخص آخر في إدارة بوش الأب لإعداد رد عسكري فعَّال على غزو صدام حسين للكويت. ومع ذلك، أدرك سكوكروفت أن هناك بعض الحقائق البشعة التي لم تكن مؤاتية للحلول الأميركية القريبة الأجل. ومن هذا المنطلق، نصح بعدم التقدم الى بغداد بعدما قامت القوات الأميركية بتحرير الكويت في شهر شباط/فبراير من عام 1991 ـ تماماً كما فعل مثل ذلك قبلها بسنتين عندما ساعد الرئيس بوش الأب على مقاومة دعاة حرف العلاقات مع الصين برمتها بعد أحداث ساحة «تيانانمن». وهاتان السياستان كلتاهما تعرَّضتا الى نقد شديد في حينه، وبعد ذلك أيضاً، لكنهما ربما كانتا كلتاهما أفضل من كل البدائل المطروحة.

وهذا ما جعل سكوكروفت نظيراً موازياً للرئيس بوش الأب، لأنهما يحملان توجهات متشابهة قوامها ضرورة تخفيف غلواء الطموح بالواقعية وضبط النفس.

كتب جون لويس غاديس، أستاذ التاريخ في جامعة «يايل» يقول: لتحقيق أهدافك ومراميك يجب أن تبدأ بوضع استراتيجية كبرى شاملة، وأقصد بذلك وضع قاعدة ضابطة لتحقيق الغاية المرجوة عن طريق أكفأ الوسائل لاستخدام الموارد المتاحة».

ويلاحظ دانيال كورتزر، السفير الأميركي السابق في مصر: «إن الاستراتيجية الكبرى الشاملة تشير الى الجهود المبذولة لتعبئة وحشد القدرات العسكرية، والديبلوماسية، والسياسية، والاقتصادية، للدولة في خدمة المصلحة الوطنية. وهي تتطلب من الدول البحث في كامل عدَّة الأدوات التي في متناولها، وموازنة قوتها مع قوة أعدائها بصورة تتسم بالدقة وبحسن التبصر».

أما هنري كيسنجر فإنه يعرِّف الديبلوماسية بعناصر ثلاثة:

&«أولاً، إن العنصر اللازم الذي لا غنى عنه في السياسة الخارجية الناجحة هو مفهوم استراتيجي طويل الأمد يقوم على تحليل دقيق لجميع العوامل ذات الصلة.

ثانياً، على رجل الدولة أن يقوم بتنقية تلك الرؤية وتوجيهها باتجاه هادف ومترابط منطقياً. وعليه (أو عليها) أن يعرف الى أين تؤدي تلك الاستراتيجية ولماذا.

ثالثاً، عليه أن يتصرف عند الحدود العليا لما هو ممكن، بجسر الهوة بين تجارب مجتمعه السابقة وتطلعاته المستقبلية، ذلك لأن تكرار المكرر يؤدي الى الركود والاستنقاع، مما يستدعي قدراً غير قليل من الجرأة والإقدام».

إن القائد الاستراتيجي يأخذ في الحسبان دروس التاريخ في الحالات المشابهة، وكما يقول هنري كيسنجر: «المناصب القيادية العليا تعلِّم صاحبها كيفية اتخاذ القرارات وليس مضمونها، فهي تستهلك المخزون الفكري ولا تصنعه. ففي حين تقبع المثل العليا في عقول الناس، فإن القدرات وحدها هي التي تقرر ما تفعله الدول. ولهذا السبب، فإن الغايات قابلة للتوسع الى ما لا نهاية، بينما الوسائل ليست كذلك. وبالتالي، فإن حساب العلاقات بين الغايات والوسائل يقتضي أن تكون المعايير حسَّاسة ودقيقة».

ويؤكد جورج مارشال، وهو وزير خارجية سابق وقائد عسكري أميركي متميز، أن أي استراتيجية تستدعي استخدام قوات عسكرية أميركية في الخارج يجب أن تأخذ في الحسبان ما يلي: «يتوجب علينا تحديد الغاية من أي عمليات عسكرية تقوم بها القوات المسلحة، وتقدير ما هو مطلوب من حيث عديد القوات، وما هو الدعم اللوجستي اللازم، وتخمين التأثيرات المحتملة على الاقتصاد الوطني وعلى الرأي العام في البلاد، والتقرير أو الحكم حول ما إذا كنا نستطيع قبول تلك التداعيات».

هناك أيضاً ما طرحه الديبلوماسي الأميركي المشهور جورج كينان، وهو من كبار المخططين السياسيين ومهندس سياسة احتواء الاتحاد السوفياتي من غير اللجوء الى القوة، وذلك بدعم وجود عسكري أميركي في أوروبا الغربية، وجعل أوروبا الغربية ناجحة ومزدهرة اقتصادياً. وفي رأي كينان أن الرئيس جون كنيدي فهم مبدأين أساسيين من مبادئ الحنكة في إدارة الدولة، أولهما أنه لا يجوز اعتبار أي قرار سياسي قراراً نهائياً، وثانيهما لا يجوز أن يكون انعدام النهائية في القرار ذريعة للجمود والتوقف عن الحركة.

وقد رأى كينان في الرئيس كنيدي شخصاً «صافي العقل، سريع الذكاء، يتمتع بذاكرة حافظة غير عادية». وقال كينان أيضاً: «كان كنيدي يتمتع بميزة نادرة من حيث رهافة الحس من غير أن يكون عبثياً مزهواً. وعندما كانت تواجهه حالات من سلوك الآخرين، كما حدث في بعض الأحيان، بلغت تقريباً حدود الخداع الفاقع، فإن ردَّ فعله لم يكن غاضباً بقدر ما كان تعجباً وتأملاً جدَّدا لديه الفضول لمعرفة أسباب تصرُّف هؤلاء الأشخاص على هذا النحو».

كان الرئيس كنيدي، في رأي كينان، يقارب القضايا «بعقل منفتح، يدرسها بعناية، ويقرر أجوبته عنها، وهو يطرح المزيد من الأسئلة في الوقت عينه. كان يحترم الماضي، وما ساوره قط أن الذين سبقوه كانوا إمَّا مغفَّلين، أو يكنُّون نوايا سيئة».

بعد انتخابه رئيساً، التقى كنيدي مع جورج كينان 14 مرة. كان يستشيره ويثق به كأنه راعيه. وكان كينان يعرف أن جميع الرؤساء يعانون من نقص في المعلومات، ويواجهون خيارات لا توافق بينها. لقد أراد كنيدي، المفكر الاستراتيجي والرئيس الاستراتيجي أيضاً، أن يصغي الى رجل ديبلوماسي، والى مخطط بارع في رسم السياسات، ومفكر واسع الثقافة، مثل كينان، الذي مارس النقد الذاتي دائماً وباستمرار، وما خشي يوماً أن ينطق بالحقيقة في وجه السلطة الحاكمة.

إن القائد الاستراتيجي، في التحليل الأخير، يجب أن يفكِّر استراتيجياً في ما لا يخطر ببال، مما هو غير متوقَّع. وعليه أن يحيط نفسه برجال ونساء يضعون المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، ويتمتعون بالنزاهة الفكرية، وأن يتصرف تصرفات منطقية، فلا يضع العواطف موضع العقل والمنطق. أما القائد الذي يمارس السياسة الخارجية بموجب فرضيات غير واقعية وغير معقولة، فإنه محكوم بالفشل والإخفاق. ولذلك، فإن القائد الاستراتيجي يجب أن يبقى حذراً باستمرار وأن& يكون مستعداً بصورة دائمة بانتظار تغيُّر الظروف في أي وقت.

فالاستراتيجية، في مجمل القول، يجب أن تتضمن توصيفات دقيقة للمصالح الحيوية، وللأخطار الماثلة، وللردود المعقولة والمجدية. كما يجب أن تميِّز أيضاً بين المصالح الحيوية والمصالح الهامشية. وفي هذا قدَّم زبيغنيو بريزنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، شرطاً صحيحاً وسليماً للاستراتيجية المثلى هو أن تكون قويَّة دائماً، لأن الديبلوماسية التي تُمارس من غير قوَّة ليست مقنعة.

وأي قائد يتمتع بالحكمة والخبرة يعرف أن القائد الذي ينتهج سياسات قائمة على الريبة بشعبه وعدم الثقة به، فإنه لن ينجح أبداً، ولا تكون استراتيجيته مؤهلة للبقاء السياسي على المسرح، كما شاهدنا بأم العين في المنطقة العربية منذ عام 2011.

وأخيراً، لا بد للاستراتيجية الناجحة من أن تستند الى سياسات واضحة ومتماسكة، لا الى الغضب أو الانتقام أو الهوس بخصم لدود. فهي يجب أن تقوم على الحقائق والوقائع، وعلى التشخيص السليم للمناخات السياسية، وعلى المصلحة الوطنية بالمعنى الأوسع والأعم.

كذلك تعني الاستراتيجية الحكيمة أن يتخلَّى البلد وقادته عن «المواقف السياسية غير السليمة»، بدلاً من التمسك العنيد بأهداف متهورة وغير قابلة للمرونة والتراجع.

هذا المقال تنشره "إيلاف" بالاتفاق مع تقرير "الديبلوماسي" الذي يصدره في لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله.