صوتها جسر عبور بين الماضي والمستقبل، تتشرب التراث، لكنها لا تقف عند حدوده، بل تتطور موسيقيًا. إنها جاهدة وهبة الصوت اللبناني الذي شدا أخيرًا في باريس مكرمًا عمالقة مصر، تؤكد في حديث لـ"إيلاف" أنها تؤمن بالإبداع أساسًا لأي فن، وإلا فيصبح سلعة سريعة الاستهلاك والعمر.

إيلاف من باريس: يُمكن ببساطة أن يُطلق على جاهدة وهبة صفة "المجاهدة"، كما سمّاها المطرب والملحّن اللبناني الراحل وديع الصافي. اسمُها يحمل كل المعاني. و"جهادها" لا يشبه في أيّ شيء ما نسمعه في أيّامنا من "جهاد". فهو ذروة في الشعر والموسيقى. وهي لا تعرف شيئًا اسمه اليأس. تجهد من دون كلل في بحثها عن كلمات وألحان تليق بسامعيها.&

تكريم مصر من باريس
عندما تعتلي المسرح تنحبس الأنفاس، ليصبح الجمهور إسفنجةً تتشرّب من عذوبة صوت صادح قوي كالجرس. هكذا تفاعل معها قبل أيّام في مسرح "فونتانبلو" العريق في فرنسا، حيث أرادت جاهدة وهبة تكريم القاهرة ونجومها، فغنّت أم كلثوم ومحمّد عبد الوهاب وأسمهان وسيّد درويش وعبد الحليم حافظ وليلى مراد وغيرهم، ضمن مهرجانات Ile de France.&

تحبّ دائمًا هذه العودة إلى الطرب الأصيل، إلى "المدارس"، كما يحلو لها أن تسمّيهم. وقبلهم كرّمت المغنية الفرنسية الأيقونة إديث بياف، والمطرب وديع الصافي.&

تلتقي "إيلاف" جاهدة خلال تمريناتها للحفلة المنتظرة، فتجيب عن كلّ سؤال بأفكار واضحة وصوت مميّز في الكلام مثل الغناء. لا ترى جاهدة وهبة نجاح حفلات التكريم مضمونًا في فرنسا أكثر ممّا&في لبنان: "جمهوري يعرفني ويتابعني حيث أكون، طُلب منّي أن أكون في باريس هذه المرّة، فلبّيت الدعوة. حفلات كهذه محبّبة على قلوب الناس، وكثيرون هم من يحنّون إلى ذاك الماضي الجميل".&

الأرشفة لحفظ الذاكرة
تعشق جاهدة وهبة فنّ بلاد النيل، وكانت فخورة بأمسيتها الباريسية: "فنانو مصر مدرسة بالفعل، وأنا تعلّمت واكتسبت منهم أمورًا كثيرة. يستحقّون هذه التحية". تسمّي من كانت لتكرّم من فناني بلدها لو أتتها الفرصة. تركّز على "العملاق وديع الصافي"، كان معجبًا بصوتها وألحانها، وترى أنه أكثر من أعطى التراث الغنائي العربي، وفيروز والأخوين الرحباني، والشحرورة صباح، ونصري شمس الدين، وزكي ناصيف وغيرهم.&

كلامها على تراث الفنّ الأصيل والعريق وتاريخه يتكرّر في حديثها لـ "إيلاف" كأنّها تخشى أن تذهب أعمال الكبار وتضمحل: "لا أزال أؤمن برسالة الفنّ، ماذا نترك للأجيال التي تلحقنا؟". تهمّها مسألة "الأرشفة" وصناعة وتجديد التاريخ الفني العربي: "صارت الأغنيات تنتشر في الفضاء الافتراضي، وأخاف أن يكون العمل على أرشفتها ناقصًا".&

لا يزعج جاهدة وهبة وصف فنّها بالـ"نخبوي". اختارت طريقًا رفيعًا جدًا، لا سيّما في ألبوم "شهد"، لكنّ ذلك لا يعني ألّا يصل فنّها إلى الجميع، تقول: "أحاول التنويع قدر المستطاع، وثمّة قصائد غنّيتها في غاية البساطة والسلاسة أو بالعامية". ورغم تعلّقها الكبير بالفن الأصيل، إلا أنها لا ترى أن الجودة مرتبطة وجوبًا بكل ما هو قديم، "أتّجه في الألحان والتوزيع إلى نمط عصري لا يشبه ما اعتدناه".&

الإبداع ركيزة
في الحديث عن واقع الفنّ اليوم، تتبدّل المصطلحات، وتختار كلماتها بعناية، لا تذكر أي "انحطاط" أو "سوقيّة". تلقي اللوم على عصر السرعة، تستخدم تعبيرًا لافتًا: الوجبات السريعة، الـFast Food الغنائي، و"المشكلة أن التسليع يطغى على كلّ شيء، هناك سعيٌ مستمرّ إلى شهرة وغنى سريع، فتغيب الأخلاق، وهي أساس الفن". الفن في مدرستها حين يفتقد البحث والإبداع لا يستمرّ.&

لكن أمَل جاهدة المجاهدة لا ينطفئ. تتابع أعمال الجيل الشاب وتقدّر تجاربه. لا تحسده على المسار الصعب. تتحدّث عن بدايات الربيع العربي: "رغم كلّ الدماء وكل صعاب الشعوب، لا شكّ أنه أظهر للشباب والفنانين أنّ ثمة أوضاعًا أفضل يجب السعي إليها واختبارها".

الاحتفاء بمسرح المدينة
فنيًا، تتحضّر جاهدة وهبة لأمسية "صوفيات" التي تقام في 21 أكتوبر في "مسرح المدينة" - بيروت لمناسبة مرور عشرين عامًا على تأسيسه، وتحضّر ألبومها الجديد بالعربية المحكيّة. تتحمّس لما سيأتي، وفي بالها أحلام ومشاريع كثيرة من لبنان إلى ما وراء الحدود.

في فرنسا وقفت جاهدة وهبة أمام جمهور يحبّ صوتها المثقّف المتقن العريض. رافقتها فرقة إيلي معلوف وكورال التراث. غنّت "شَهد" الفن العربي الأصيل. غنّت لعبد الحليم، وصوتها كان كما دائمًا "كامل الأوصاف"، فانتزع التصفيق الطويل عاليًا، عاليًا، عاليًا.&