لندن: فرنسا مأسورة هذه الأيام بما نُشر من رسائل رئيسها الراحل فرانسوا ميتران إلى آن بينجو، عشيقته طوال 20 عامًا التي انجبت منه ابنة غير شرعية سمياها مازارين. ففي مجموعة من 1218 رسالة كتبها ميتران على امتداد 33 عامًا، يتحدث ميتران إلى عشيقته بلغة نثرية أنيقة عن الفن والثقافة والصراعات السياسية وزعماء دول أخرى، وعن اشتهائه جسدها بعاطفة مشبوبة.&

فاحش!

يتيح نشر "رسائل إلى آن" التي تملأ 1200 صفحة عن دار غاليمار إلى جانب دفتر من الملاحظات الحميمة التي كتبها ميتران عن بينجو من 1964 إلى 1970، إلقاء نظرة نادرة إلى حياة رجل كان يُعد شخصية باردة وماكيافيلية، فهو لم يتخل عن زوجته حتى عندما عاش سنوات مع عشيقته. كما يعكس نشر الرسائل التغير الذي طرأ على فرنسا حيث كانت الحياة الخاصة مقدسة، حتى أن الفرنسيين لم يعرفوا بعائلة ميتران الثانية إلا بعد أن أذاعت الخبر مجلة باري ماتش قبل عامين فقط على وفاته، أي في 1996.&

يغطي الكتاب الذي نُشر بموافقة بينجو واطفال ميتران الثلاثة الذين ما زالوا على قيد الحياة حقبة كان الناس يعيشون فيها بعواطفهم لا برموز أجهزتهم الإلكترونية. وقال جان لوب شامبيون، المحرر في غاليمار: "إنه حقًا كتاب من القرن العشرين وليس من القرن الحادي والعشرين، إذ لا يستطيع المرء أن يحفظ سرًا الآن، فهذا عالم مختلف".&

كانت ردات فعل وسائل الإعلام الفرنسية إيجابية إلى حد بعيد على نشر رسائل توثق علاقة الرئيس السرية المديدة خارج إطار الزوجية، على الرغم من أن البعض وصف الكتاب على مواقع التواصل الاجتماعي بانه "فاحش".

وكتبت مجلة لوبوان المحافظة: "كنا نعرف عن ابيلار وإلواز، عن موسيه وساند، عن أبولينير ولو، عن ميلر ونان، وعلينا الآن أن نضيف إلى هذه الثنائيات الاسطورية ثنائي رئيس دولة وامرأة مغمورة عرفت كيف تهيج عواطفه".

&

بعد مرور 20 عامًا على وفاته
فرنسا تنشر رسائل فرانسوا ميتران الغرامية


&
مصيبة.. أو مصيبة؟&

لاحظ معلقون الفارق بين نثر ميتران المنمق وخداعه المهذب من جهة، ورئاسة فرانسوا هولاند المفضوحة من الجهة الأخرى. ففي عام 2014، هزت فرنسا كتفها غير مكترثة حين صُوّر هولاند الذي كان يرتبط بعلاقة مع الصحافية فاليري تريرويلر، وهو يحاول التنكر بخوذة راكب دراجة نارية خلال خروجه من شقة عشيقته الأخرى جولي غاييه.&

كما نُشر أخيرًا كتاب من المقابلات الصريحة التي قال هولاند إنها أُجريت معه خلال السنوات الأربع الماضية بروح من الشفافية، لكن منتقديه وصفوا نشر الكتاب وهو ما زال رئيسًا بـ"الابتذال"، بل ذهب البعض إلى حد البكاء على نهاية الحياة الخاصة في فرنسا.&

على النقيض من ذلك، ما زالت بينجو التي كانت تعمل في متحف دورساي في باريس قليلة الكلام، حتى بعد خروجها من الظل. وفي المقابلة الوحيدة التي أجرتها إذاعة فرنسية معها عن هذا الكتاب، ابدت موقفًا مترددًا من نشر الرسائل. وقالت: "لا أعرف إن كنتُ مصيبة في ما فعلته أم لا، أحيانًا أعتقد ذلك وأحيانًا اخرى لا اعتقد".&

&

لغة بديعة تشبه ما يكتبه كبار الأدباء والشعراء
مقاطع من رسائل فرانسوا ميتران إلى آن بينجو

&

طبعت بينجو الرسائل المكتوبة بخط يد ميتران بنفسها على الآلة الكاتبة، وقالت إنها في الثالثة والسبعين الآن، وتريد أن تضع الأمور في نصابها الصحيح، "وخوفي من ألا يحدث ذلك كان أحد الدوافع وراء النشر".&

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن فيليب شورت الذي قابل بينجو لكتابة سيرة حياتها التي نُشرت في عام 2013: "هناك جوهر فولاذي في آن بينجو. كانت تعرف ما تريد من حياتها، وحققته في مواجهة كل الصعاب".&

لها وللتاريخ

كانت بينجو مراهقة نشأت في عائلة كاثوليكية ريفية محافظة من الطبقة الوسطى عندما التقت ميتران الذي كان في منتصف أربعيناته، متزوجًا وله طفلان، يلعب الغولف بين حين وآخر مع والدها. وخلال العامين الأولين من مراسلاتهما في 1962 و1963، كان يستخدم لغة رسمية في مخاطبتها، وكانت بينجو تمانع، "ثم ازدهرت بينهما الرومانسية الجسدية".&

بدأ ميتران الذي كان عهده الأطول بين الرؤساء الفرنسيين بتوليه الرئاسة من 1981 إلى 1995، مع اليمين الكاثوليكي وعمل في حكومة فيشي التي تعاونت مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، ثم انتقل إلى معسكر اليسار وانخرط في صفوف المقاومة الفرنسية. أصبح لاحقًا زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي موحدًا اليسار الفرنسي المنقسم، وأسهم بقسطه في بناء الاتحاد الاوروبي.

تبدو بعض الرسائل وكأنها يوميات كتبها ميتران للتاريخ بقدر ما كتبها لعشيقته. لكن غالبيتها رسائل حميمة ورقيقة، إذ كتب في عام 1972: "كل شيء يرتجف فيكِ مثل غابة في الريح، لكن للغابة ألف جذر والريح تهب من خلالها. أنتِ غابتي التي أحب كل شجرة فيها".&

&

آن بينجو (بالرداء الأحمر) تتحدث مع&فرانسوا ميتران

&

وفي رسالة كتبها ميتران في عام 1971، يشبّه حبهما بـ"الموجة العميقة، تفصلنا فأصرخ، وأصرخ، تسمعيني من خلال تدفق الصوت، أنتِ تحبيني، تملكيني باستماتة، لكنك لا تريني بعد ذلك، لا أعرف أين أنتِ، وها أنا مليء بكل تعاسة العالم".&

أعايش القلق

قال ريجي دي سوميير، نائب رئيس تحرير مجلة باري ماتش التي كشفت علاقة ميتران بعشيقته في عام 1994، إن الرسائل "كاشفة". أضاف: "كنا نعرف أنه كاتب جيد ورجل موهوب جدًا جدًا، ذو مهارة كبيرة في الكتابة، لكن مستوى الكتابة الذي يستخدمه لإعلان لهيب حبه لآن بينجو مذهل".&
&

آن بينجو مع ابنتها من ميتران مازارين

تطلب بينجو في واحدة من رسائلها القليلة التي تضمها المجموعة، كتبتها في عام 1971، من ميتران أن يرسي علاقتهما على أساس نظامي حتى إذا كان لا يريد أن يترك زوجته. كتبت: "إذا كان الحب الحر يحرمني من بيت وطفل وأمل وهدوء وأمن وكرامة فانه يجب في الأقل أن يبقى حرة. سيكون هناك دائمًا خطاب، أو انتخابات، أو مؤتمر حزبي. أنا منهكة وأعايش القلق يوميًا. إذا كنتَ تحبني فعليك أن تسعدني".
ولدت ابنتهما غير الشرعية مازارين في عام 1974 وسُميت كناية بالكاردينال مازارين، رئيس وزراء لويس الرابع عشر، وداهية تكتيكي كان ميتران معجبًا به.&

بعد انتخاب ميتران في عام 1981، أُحيطت بينجو وابنتهما مازارين بحماية أمنية على مدار الساعة من خزينة الدولة والمال العام، وكان ميتران يزورهما ويبات الليلة معهما، وكان يستخدم افراد حمايته لمنع الصحافيين من إفشاء السر.&

ذاتان متعايشتان

كانت علاقة الرئيس بالمرأة الأخرى دانيل غوز التي تزوجها في عام 1944 معقدة. وعلى امتداد سنوات، كان للسيدة ميتران شريك اسمه جان بالينسي الذي كانت لديه غرفته الخاصة في شقة ميتران وزوجته في باريس. كان بالينسي وميتران يتناولان الافطار على مائدة واحدة احيانًا، وكان بالينسي يقضي الإجازات مع عائلة ميتران. ويكتب شورت في سيرة حياة بينجو أن بالينسي "كان يُقدم للغرباء على انه ابن عمومة من بعيد".&

&

"رسائل إلى آن" انتهت في سبتمبر 1995

&

تنتهي "رسائل إلى آن" في سبتمبر 1995 حين كان الرئيس يحتضر بعد اصابته بسرطان البروستات منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهو أمر آخر أخفاه ميتران عن شعبه. وكتب ميتران في رسالته الأخيرة إلى بينجو: "كنتِ دائمًا تعطيني أكثر، كنتِ فرصة حياتي. كيف لم أتمكن من زيادة حبي لك؟".

بحسب القانون البروستياني (نسبة إلى الكاتب الفرنسي مارسيل بروست)، فإن ذاتين تتعايشان في كل كاتب: ذات اجتماعية وذات عميقة، لا تشتركان إلا باسم الكاتب. وما مارس ميتران هذا الانفصام في حياة العائلة والأصدقاء فحسب بل في داخل نفسه ايضًا، بين ذاتيه اللتين لم تدركا أنهما شخص واحد، إلا في النهاية.&

الوجه الآخر

وخصت الصحف الفرنسية مقالات عدة لكتاب "رسائل إلى آن" الذي يكشف وفقًا لصحيفة لو فيغارو الفرنسية وجه ميتران الآخر وشخصيته العاشقة والأب.

واعتبرت مجلة لو نوفيل أوبسرفاتور أن هذا الكتاب من أجمل القصص الغرامية المعاصرة في الأدب الفرنسي. ووصف جيروم غارسان، الصحافي في المجلة المذكورة، الرسائل هذه بأنها "كنز أدبي حقيقي، فالرئيس العاشق تحول إلى كاتب بليغ وأديب مميز، صاغ جمله بدقة وحساسية، فظهر من خلالها شوقه لها والعشق العميق بين الحبيبين".

يتقاطر الفرنسيون لشراء هذا الكتاب، خصوصًا بعدما نقلت لوموند الفرنسية عن آن بينجو قولها: "في أعماق علاقتي بميتران، قبلت ما لا يمكن قبوله".