لندن: في عام 1570، وجدت الملكة اليزابيث الأولى نفسها في مأزق. فالبابا طردها من الكنيسة الكاثوليكية وأوروبا قاطعت بلدها. وكانت إنكلترا بحاجة إلى حلفاء لتفادي الخراب. فاستغاثت الملكة بجهة غير متوقعة طالبة العون، هي العالم الاسلامي. البروفيسور جيري بروتون، استاذ دراسات عصر النهضة في جامعة الملكة ماري في لندن، يستطلع في كتابه الجديد "السلطان والملكة" جوانب من التاريخ المنسي للتحالفات التي قامت بين الانكليز والمسلمين.

الأسباب سياسية وتجارية

يتسم الكتاب بأهمية اليوم تحديدًا إذ ينظر كثير في الغرب، من دونالد ترامب إلى مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، إلى المسلمين على أنهم تهديد على الرغم من أن ملوك أوروبا مثل الملكة إليزابيث أقاموا تحالفات مع شاه إيران والسلطان العثماني.

يقول بروتون إن علاقة إليزابيث الأولى بالعالم الاسلامي: "تعلّمنا الكثير، فهي تعلمنا أن هناك شكلًا من أشكال التبادل البرغماتي والتسامح والتفاهم يعلو على الأيديولوجيا". يشير بروتون إلى أن من القضايا الرئيسية التي يوليها اهتمامًا في كتابه قضية التجارة واحتكاك التجارة بالدين. فإن سبب العلاقة التي أقامتها إليزابيث الأولى مع العالم الاسلامي سبب لاهوتي في البداية، حين كانت تبني دولة بروتستانتية وأصبحت إنكلترا دولة منبوذة في أوروبا الكاثوليكية. فمدت يدها إلى العالم الاسلامي طالبة التحالف معه.

غلاف كتاب "السلطان والملكة"

ما يُستتبع من ذلك تبادل تجاري بصرف النظر عن الاختلافات المذهبية واللاهوتية. وبحسب بروتون، لم تمد الملكة اليزابيث الأولى يدها إلى السلطان مراد الثالث لأنها "شخص لطيف ويريد توافقًا دينيًا، بل هي تفعل ذلك لأسباب سياسية وتجارية محضة".

وجهان لعملة واحدة

قال بروتون، وله كتاب بعنوان "تاريخ العالم في 12 خريطة"، إنه بدأ دراسة خرائط القرن السادس عشر، وما تقوله الخرائط هو أن هناك تبادلًا بين العالمين الاسلامي والمسيحي لم تأتِ التواريخ الرسمية على ذكره.

أضاف بروتون: "إن نظرة إلى بورتريهات آل تيودر الذين حكموا انكلترا وقتذاك تبين أن ملوكهم وملكاتهم كانوا يزينون أنفسهم باللؤلو الشرقي والحرير من ايران والقطن من الامبراطورية العثمانية، وسرعان ما دخلت الانكليزية مفردات ذات جذور عربية أو فارسية جاءت مع البضائع المستوردة من العالم الاسلامي، مثل "السكر" و"القرمزي" و"الحناء".

السلطان مراد

وحاولت إليزابيث الأولى إقناع السلطان مراد بأن البروتستانتية والإسلام وجهان لعملة واحدة، وأن الكاثوليكية هرطقة حقيقية. وفي هذا الشأن، أوضح بروتون في مقابلة مع مجلة "ناشونال جيوغرافيك" أن اليزابيث الأولى كتبت إلى السلطان العثماني في عام 1579 قائلة إن بينها وبينه أوجه شبه متعددة على مستوى الايديولوجيا: "فنحن الاثنان لا نؤمن بعبادة الأوثان أو شفاعة الأولياء والقديسين. البروتستانتية تقول عليك أن تقرأ الكتاب المقدس وستكون على اتصال مباشر بالرب، والاسلام الحنيف يقول الشيء نفسه. أنتم عندكم القرآن والحديث النبوي ولا تحتاجون إلى قديسين أو أيقونات".

المسيح خارج الموضوع

رأى بروتون أن اليزابيث كانت "تفعل ذلك لأسباب سياسية" وأن "ما تقوله هو انكم تحاربون الكاثوليكية الاسبانية، وأنا احارب الكاثوليكية الاسبانية، وما لا يذكره أحد هو المسيح. فالاسلام يؤمن بنبوة المسيح لكنه لا يؤمن بأنه ابن الله ولهذا يتفادى الاثنان في كل مراسلاتهما المرور على هذه القضية. وهما دائمًا يتحدثان عن حقيقة ايمانهما بالمسيح ولكن ليس عن طريقتهما في الايمان بالمسيح".

وتطرق بروتون إلى قصة التترية أورا سلطانة التي كانت أول مسلمة دخلت بريطانيا قائلًا إن انتوني جينكنز، الذي كان من اوائل الانكليز المبادرين إلى اقامة علاقات دبلوماسية وتجارية مع بلاد فارس، اشترى امرأة تُدعى أورا سلطانة في استراخان واصطحبها معه إلى انكلترا.

في ذلك الوقت تقريبًا، استُحدثت وظيفة الوصيفة في بلاط اليزابيث. وبحسب بروتون، فإن اورا سلطانة اصبحت مستشارة الملكة لشؤون الأزياء، تنصح اليزابيث بما ترتديه من أحذية أو فساتين بحسب المناسبة.

الملكة تحب السكر&

في ذلك الزمن، كانت انكلترا تستورد اكثر من 250 طنًا من السكر المغربي سنويًا، وكانت الملكة اليزابيث شغوفة بالسكر حتى تسبب في سواد أسنانها. وقال البروفيسور بروتون إن انكلترا كانت تستورد معظم السكر الذي تستهلكه من المغرب "نتيجة التحالف الانغلو - إسلامي الذي أقامته اليزابيث مع الأسرة السعدية الحاكمة". اضاف: "تتمثل المفارقة في أن المغاربة كانوا يحاربون الإسبان فيما كان السكر المغربي يدمر أسنان اليزابيث والأسلحة الانكليزية تساعد المغاربة على قتل مسيحيين آخرين".

كما يروي بروتون قصة التاجر الانكليزي سمسون رولي الذي وقع في أسر قراصنة اتراك خلال رحلة تجارية في البحر المتوسط في عام 1577، وكيف أُخصي قبل أن يُنقل إلى الجزائر. هناك اعتنق الاسلام واختار "حسن آغا" اسمًا آخر له، واصبح المسؤول المالي للوالي العثماني في الجزائر.
بعد عشر سنوات، كتب اليه الانكليز يدعونه للعودة معربين عن اعتقادهم بأنه ما زال بروتستانتيًا. ورد عليهم رولي قائلًا: "لن أعود على الاطلاق، فأنا عندي قصر في الجزائر والطقس لطيف هنا فلماذا أُريد العودة" إلى انكلترا.

قصة تسامح

اكد بروتون أن هناك قصصًا كثيرة عن اشخاص اعتنقوا الاسلام لأنهم رأوا في العالم الاسلامي عالمًا متسامحًا يقبل الاختلاف، على النقيض من نظرة الغرب اليوم. يلاحظ بروتون في كتابه "السلطان والملكة" أن مسارح لندن كانت مأخذوة بتقديم مشاهد وشخصيات من التاريخ الاسلامي وتأثير ذلك في مسرحيات شكسبير ايضًا. وقال بروتون عن شكسبير كان مفتونًا بالمغاربة بصفة خاصة وهو يستخدم لغة الاتراك والفرس ايضًا في مسرحياته، مشيرًا إلى ظهور شخصيات من العالم الاسلامي في مسرحيات مثل "تايتس اندرونيكوس" و"تاجر البندقية" و"عطيل".

قال بروتون في ختام حديثه انه نشأ في مدينة برادفورد متعددة الاثنيات شمال انكلترا، وكان يلعب الكريكيت مع سيخ وهندوس ومسلمين، ويأمل في أن يكون كتابه محاولة متواضعة لتقديم قصة أخرى من قصص التسامح.

أعدت «إيلاف» هذا التقرير بتصرف نقلاً عن «ناشنال جيوغرافيك».