رغم كل ما تستخدمه الصحافة الاميركية من تكنولوجيا مذهلة وطرق متطورة في جمع البيانات وتحليلها لفهم ظاهرة بشرية من حيث الأساس مثل الانتخابات الرئاسية فانها وجدت نفسها متلكئة وراء الحدث، لاهثة للحاق بالمزاج العام.

واشنطن: فشلت وسائل الاعلام الاميركية في قراءة ما كان يجري حولها رغم انه قصة قد لا تتكرر في زمن حياة كاملة. ولم تكن الأرقام ونتائج الاستطلاعات مرشداً أعمى لليلة الانتخابات فحسب بل كانت بعيدة كل البعد عمّا يجري فعلا.

ولم يتوقع أحد ليلة مثل ليلة الانتخابات التي اسفرت عن صاعقة فوز دونالد ترامب على هيلاري كلينتون وظفره بالبيت الأبيض. 

وكان التقصير ليلة الانتخابات يتخطى فشل الاستطلاعات في التنبؤ بالنتيجة بناء على ارقام ونسب جامدة. فالخطأ الفادح الذي ارتكبه الاعلام الاميركي بكل تكنولوجياته الرقمية المتطورة هو فشله في التقاط الغضب العارم لشريحة واسعة من الناخبين الاميركيين الذين يشعرون أن قطار الانتعاش الاقتصادي الانتقائي تركهم وراءه وان الاتفاقيات التجارية التي عقدتها حكومتهم غدرت بهم وقطعت مصادر رزقهم وانهم لا ينالون الاحترام الذي يستحقونه من واشنطن وول ستريت والاعلام السائد.

تساؤل

كان الصحافيون لا يضعون نتائج الاستطلاعات موضع تساؤل حين تتفق مع حدسهم بأن ترامب لن يتمكن من الفوز ولا حتى بعد مليون سنة. وكانوا يصورون مؤيدي ترامب الذين استمروا في الرهان عليه على انهم فقدوا الصلة بالواقع. وفي النهاية اتضح ان العكس هو الصحيح.

قبل اشهر قليلة على فشل وسائل الاعلام الاميركية فشلت نظيراتها الاوروبية في توقع خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. وجاءت انتخابات الرئاسة الاميركية عام 2016 لتصبح نسخة من بريكسيت بتداعيات داخلية وخارجية تفوق تداعيات بريكسيت اضعافاً مضاعفة.

سبقت يوم الانتخابات فترة من الاعلانات بأن السباق متقارب بين المرشحَين ولكن النتيجة محسومة من حيث الأساس. وتمسك الاعلام الاميركي بهذا التقييم حتى بعد النبأ الذي نقله اواخر اكتوبر بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي اعاد فتح قضية مراسلات كلنتون على بريدها الالكتروني الخاص.

وقالت صحيفة هفنغتون بوست ان فوز كلينتون "سيكون كبيراً ولكنه لن يكون ساحقاً". وكان هذا التقييم متفقاً بهذا القدر أو ذاك مع تقدير صحيفة نيويورك تايمز مساء يوم الانتخابات بان احتمالات فوز كلينتون تبلغ 84 في المئة.

انقلاب التوقعات

ثم حدث التغير العميق عندما أخذت وسائل الاعلام تتسابق للحاق بالحافلة التي مرّت امامها. وبحلول الساعة العاشرة والنصف مساء انقلبت توقعات نيويورك تايمز السابقة بالاتجاه المعاكس رافعة حظوظ ترامب بالفوز الى 93 في المئة. 

وسائل اعلام كبرى أخرى استدارت 180 درجة من ترجيح فوز كلينتون الى فوز ترامب في ساعة متأخرة. واعلن جون كنغ من شبكة "سي ان ان" التلفزيونية لجمهوره الواسع ليلة الانتخابات "ان حديثنا لم يكن يستند الى الواقع" بعد ان راجع الخريطة التي كانت امامه مبينة ان ترامب يتمتع بفرصة طيبة للوصول الى البيت الأبيض.

كان ذلك اعترافاً لافتاً. فالاعلام الذي يفشل في تقديم سيناريو سياسي يستند الى الواقع اعلام فاشل في أداء مهمته الأساسية الأولى.

أدى الانقلاب المفاجئ في النتائج المتعاقبة من الولايات المختلفة، على الفور، الى وضع علامات استفهام على قيمة الاستطلاعات الحديثة وما إذا كانت قادرة حقا على قراءة مزاج الرأي العام في وقت من المتعذر الاتصال بكثير من الأشخاص غير المسجلة ارقام هواتفهم الخلوية.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الخبير المختص بالاستطلاعات في الحزب الديمقراطي ستانلي غرينبيرغ قوله ليلة الانتخابات "ان الاستطلاعات كانت في حالة يرثى لها ولكني اعتقد ان الدور الكبير كان لتأويل الاستطلاعات".

وصرح المخطط الاستراتيجي في الحزب الجمهوري مايك مرفي على شبكة ام اس ان بي سي "ان كرتي البلورية لقراءة المستقبل تحطمت الى شظايا متناثرة" لأنه توقع النتيجة المعاكسة. واضاف "الليلة ماتت البيانات".

الإستهانة بشعبية ترامب

بصرف النظر عن النتيجة ، كان واضحاً ان الاستطلاعات وتقديرات وسائل الاعلام استهانت بحجم شعبية ترامب بين الناخبين والحركة التي أطلقها متحدياً كل التنبؤات والتوقعات منذ اعلان ترشيحه العام الماضي. ولهذا السبب فان مشكلة الاعلام التي ظهرت ليلة الانتخابات كانت اكبر بكثير من الاعتماد على استطلاعات خاطئة. وكان واضحاً ان هناك مواطن خلل كبير في الصحافة التي لم تتمكن من مواكبة المزاج المعادي لمؤسسة الحكم التقليدية والوجوه القديمة حتى انه الآن يقلب العالم رأساً على عقب.

السياسة أكثر من ارقام والبيانات لا تستطيع دائماً ان تصيب في قراءة الوضع البشري الذي يشكل شريان الحياة السياسية. ومهمة الصحافة السياسية لا تقتصر على القول من سيكون الفائز ومن سيكون الخاسر ولكن هذا على وجه الحديد هو ما طغى على كل شيء آخر في التغطية الصحافية وكان من المحتم ان تتأثر به تغطية شؤون أخرى ايضاً.

المثير للاستغراب هو عدد المرات التي أغفل فيها الاعلام الاميركي انطلاق حركات شعبوية في الحياة السياسية الاميركية منذ عام 2008 على أقل تقدير. فهو أغفل في البداية صعود حزب الشاي واغفل بالطبع صعود ترامب غير المتوقع ليفوز بترشيح الحزب الجمهوري. ثم تخلف الاعلام عن استيعاب هذه الدروس يوم كان بأمس الحاجة الى استيعابها. 

إعداد «إيلاف» بتصرف عن صحيفة نيويورك تايمز. الأصل منشور على الرابط أدناه

http://www.nytimes.com/2016/11/09/business/media/media-trump-clinton.html?action=click&pgtype=Homepage&clickSource=story-heading&module=span-abc-region®ion=span-abc-region&WT.nav=span-abc-region