برلين: كانت الديمقراطية الالمانية بعد الحرب قصة نجاح متميزة ولكن فوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة سلط الضوء على وجود إنفصام متزايد بين الناخبين والقادة دفع كثيرين الى الخوف على الديمقراطية من تقويضها في المانيا ايضاً حيث ستجري انتخاباتها البرلمانية العام المقبل.

المانيا بالطبع ليست اميركا. وما زال شعورها بالذنب عن اهوال الحرب العالمية الثانية يتكفل بتحصينها ضد اغراءات التطرف اليميني. يضاف الى ذلك ان السياسة في المانيا أقل استقطاباً وأقل اوليغارشية وأقل فساداً. وفي المانيا لا يتعين على المرء ان يكون من اصحاب الملايين ليصبح مستشارا ، وشبكة الأمان الاجتماعي أقوى ، والفوارق الاجتماعية ليست عميقة كما في اميركا. 

ولكن المانيا ايضا تشهد اتجاهات باتت مألوفة في بلدان غربية أخرى مثل كراهية النخبة ومعاداة الهجرة والقرف من السياسيين والنظر بازدراء الى المصرفيين وغيرهم من قادة الأعمال والاعلام الذي يطبل لهم. وفي المانيا ايضا يشعر كثيرون بالاغتراب وأصبح الحوار العام أقل انضباطا وأشد عدوانية، لاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي.

ويتسبب هذا كله في تآكل النظام الذي قامت عليه الديمقراطية الالمانية. فان خطوط المواجهة السياسية لم تعد بين اليسار واليمين بل بين الديمقراطيين والشعبويين ، بين المدافعين عن القيم الاساسية التي كانت سائدة حتى الآن والمشككين بها. 

خطاب الكراهية

اسباب هذا التحول كثيرة بينها شعور قطاعات واسعة من الناخبين ان همومهم ومخاوفهم لم تعد تلقى آذاناً صاغية وان مصالحهم لا تجد من يدافع عنها. وانبرى الشعبويون لملء هذا الفراغ مدعين انهم يمثلون ارادة الشعب ورافضين الفكرة القائلة ان السياسة بحث مدفوع بالحوار عن التوفيق بين قناعات ومصالح متضاربة. وهكذا نشأ اتجاه لا يشترك في قيم الحرية والمساواة والكرامة الانسانية للجميع مفضلا تدمير أسس الحوار السياسي بالأكاذيب وخطاب الكراهية.

وانتبه السياسيون في برلين الى صعود هذا التيار منذ فترة، وتبحث الأحزاب الكبيرة عن سبل وقف هبوط العضوية فيها وفقدان الثقة بالسياسة. وأجرت استطلاعات بشأن العضوية ودراسات لفهم الظاهرة. وأنفقت الحكومة ملايين على مشروع هدفه معرفة ما يقلق الالمان حقا وكيف يريدون ان يعيشوا.

ولكن مثل هذه الخطوات لم تفعل شيئاً يُذكر لإصلاح مواطن الخلل في النظام الديمقراطي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويشير كثير من رؤساء البلديات والسياسيين المحليين في المدن الالمانية الى ان الناخبين الغاضبين يعطلون جميع المشاريع الاجتماعية تقريباً وان الدولة انسحبت تماماً من مناطق ريفية عديدة ، وفي كل مكان يتعاظم نفوذ جماعات الضغط التي تمثل مصالح شركات واتحادات مختلفة. وحتى المحاولات الأخيرة لإنعاش الديمقراطية بزيادة عدد الاستفتاءات التي تتوجه الى المواطنين مباشرة مهددة بالوقوع ضحية الشعبوية.

ويتبدى عدم الثقة بالسياسيين والاستياء من الوجوه القديمة بين كل الفئات العمرية والمستويات التعليمية والطبقات الاجتماعية بلا استثناء. ويشعر السياسيون من سائر الأحزاب التقليدية الكبيرة الذين لمسوا هذه الظاهرة مباشرة بالاحباط لانقضاض ناخبيهم الأساسيين عنهم وعن احزابهم.

تأثير انتخاب ترامب

المثير للاهتمام ان انتخاب ترامب بدا وكأنه اوقف هذا الاتجاه في الوقت الحاضر على الأقل. فإن اعدادا أكثر من المعتاد انضموا منذ فوزه في الولايات المتحدة الى احزاب المانيا ذات الاتجاه اليساري. وفي غضون ثمانية ايام سجل الحزب الديمقراطي الاجتماعي 700 عضو جديد على موقعه الالكتروني وحده. وكسب حزب الخضر 114 عضوا جديدا في يوم واحد. واستقبل حزب اليسار في صفوفه 314 عضوا جديدا خلال اسبوع بعد الانتخابات الاميركية ، أو ما يزيد اكثر من اربع مرات على عدد الأعضاء الجدد الذين ينضمون اليه في اسبوع اعتيادي. 

ويرى سياسيون ان فوز ترامب فتح عيون كثيرين على الخطر الذي تشكله الشعبوية اليمينية على الديمقراطية. ولكن استاذ العلوم السياسية المعروف في جامعة برلين الحرة اوسكار نيدرماير اعرب عن شكه في انحسار المد الشعبوي. ونقلت مجلة شبيغل عن نيدماير انه لم يتمكن من ايجاد ما يشير الى رد الاتجاه الشعبوي على اعقابه.

وتأتي ازمة الديمقراطية هبة لحزب البديل من اجل المانيا اليميني المعادي للمهاجرين والاتحاد الاوروبي. وما من حركة سياسية سابقة حققت مكاسب من اخفاقات النظام البرلماني بقدر ما حققه هذا الحزب اليميني. وقال نائب زعيمة الحزب الكسندر غاولاند بعد انتخاب ترامب "ان ثمة خللا في الديمقراطيات الغربية. والنخبة تصبح مغتربة عن الشعب في انحاء العالم". ويعتقد كونراد آدم الذي شارك في تأسيس حزب البديل من اجل المانيا ان الحزب يخوض معركة مع "الطبقة السياسية". وهو يعتبر صفة "الشعبوية" التي تُطلق على احزاب مثل حزبه وساماً على صدر الحزب. 

الديمقراطية المباشرة

تعتقد عدة احزاب سياسية في المانيا أن الديمقراطية المباشرة تمثل وسيلة لتقليص الفجوة بين المجتمع والقيادة السياسية. وهي ترى ان الاستفتاءات تفتح امام المواطنين طريقاً لممارسة شكل مباشر من اشكال المشاركة. وأدرج الحزب المسيحي الاجتماعي ، شقيق الحزب المسيحي الديمقراطي بزعامة المستشارة انغيلا ميركل ، مطلب اجراء استفتاءات في برنامجه رغم ان القانون الالماني لا يجيز الاستفتاءات. واعلن الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر وحزب اليسار تأييدها مثل هذا التوجه نحو الاستفتاءات.

ويقول رئيس كتلة الحزب الديمقراطي الاجتماعي في البرلمان توماس اوبرمان ان من الضروري "اعطاء المواطنين كلمة أكبر في القضايا المهمة" فيما يشير زعيم الحزب المسيحي الاجتماعي هورست زيهوفر الى استفتاء على منع التدخين في ولاية بافاريا حسم سنوات من النقاش حول هذه القضية. وتراهن هذه الاحزاب على توسيع المشاركة المباشرة للحد من مشاعر النقمة على السياسة وكبح تقدم القوى الشعبوية. ولكن نتيجة الاستفتاء على بريكسيت في بريطانيا تشكك في ما إذا كانت الديمقراطية المباشرة قادرة على ان تصبح أداة فاعلة في مواجهة الشعبوية إن لم تضع بيد الشعوبيين سلاحاً جديداً ضد الديمقراطية.

اختيار عشوائي

ويرى مفكرون ان على السياسيين ان يجدوا طرقاً جديدة إذا ارادت المانيا ان تحمي ديمقراطيتها. وفي الوقت الذي لا توجد وصفة جاهزة لنفخ روح جديدة في الديمقراطية فان هناك خطوات يمكن بها تعزيز الديمقراطية. ومن هذه الطرق ما يدعو اليه المؤرخ البلجيكي ديفيد فان ريبروك الذي يقترح اختيار ممثلي الشعب عشوائياً وليس من خلال انتخابات عامة وتكليف الذين يقع عليهم الاختيار بالعمل معا لتقديم مقترحات الى الحكومة. وافضلية هذه الطريقة ان الناخبين الغاضبين لن يعودوا قادرين على التنفيس عن غضبهم مختفين وراء الستائر في محطات الاقتراع دون ان يتعين عليهم كشف هويتهم ، كما فعلوا بالتصويت لصالح بريكسيت ، بل سيُجبرون على المشاركة. ويعتقد فان ريبرويك ان اختيار الممثلين لا على التعيين سيصنع شكلا جديدا من الرأي العام يتعدى الاعلام الجماهيري وشبكات التواصل الاجتماعي.

ويقترح المؤرخ الفرنسي بيير روسانفالون الذي له مؤلفات عديدة عن ازمة الديمقراطية طريقة مماثلة يدعو فيها الى استكمال الحكومة والبرلمان بمؤتمرات شعبية تصحح السياسيين وتمارس الرقابة عليهم. 

ويذهب تفكير الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس ابعد من حدود الدولة القومية قائلا ان العولمة سلبت البرلمانات والحكومات الوطنية سلطتها وحان الوقت لتعاون مشروع ديمقراطياً يتخطى حدود الدولة القومية. وإذا تعذر ضبط الرأسمالية في اطار الدولة القومية فيجب تطوير أدوات عالمية للسيطرة عليها. ولكن هذا مشروع على المدى البعيد.

اعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن مجلة شبيغل الالمانية. المادة الأصلية منشورة على الرابط التالي

http://www.spiegel.de/international/germany/german-democracy-eroding-amid-populist-rise-a-1122271.html#spRedirectedFrom=www&referrrer=