لندن: توفي رودولف ديزل في ظروف غامضة قبل ان يتمكن من تحقيق أي مكاسب من اختراعه العبقري.&

ففي ليلة وفاة ديزل على متن سفينة المانية قادمة من بلجيكا عبر بحر المانش كان مخترع المحرك الذي يحمل اسمه مهموماً يفكر في ديونه الثقيلة وما عليها من فوائد غير قادر على تسديدها. وكان ذلك اليوم 29 ايلول 1913 مؤشَّراً في يومياته بعلامة X مشؤومة.&

جمع ديزل قبل رحالته البحرية ما يستطيع من النقود ودسها في حقيبته مع وثائق تكشف متاعبه المالية. وأعطى الحقيبة الى زوجته التي لم تكن تعرف شيئاً عن نياته، طالباً منها ألا تفتح الحقيبة إلا بعد مرور اسبوع.&

لم ينتحر؟

غادر ديزل قمرته ونزع معطفه وبعد تصفيفه بعناية وضعه على سطح السفينة ثم نظر من فوق سياج السطح ورمى نفسه في البحر.&

ولكن هناك من يرى خلاف ذلك. وتكهن أصحاب نظرية المؤامرة بأن ديزل رُمي من فوق السياج في البحر ولم ينتحر. ولكن من لديه مصلحة في قتل المخترع المفلس؟&

&

رسم تخطيطي لمحرك ديزل الذي اخترعه رودلف ديزل في عام 1897

&

هنا لا بد من العودة قليلا الى الوراء وتحديدا الى عام 1872 حين كانت المصانع والقطارات تعمل بقوة البخار ولكن النقل داخل المدن يعتمد على قوة الحصان. وكانت مدينة سكانها نصف مليون تستخدم زهاء 100 الف حصان لجر عرباتها وكان كل حصان يغطي شوارعها بخمسة عشر كيلوغراماً من الروث واربعة التار من البول كل يوم. وبالتالي فان اختراع محرك صغير، زهيد الكلفة يحل محل الحصان سيكون هبة من السماء.&

كان المحرك البخاري احد الوسائل المرشحة للاستعاضة عن الحصان وبدأت السيارات العاملة بقوة البخار تجد طريقها الى شوارع المدن. وكانت الوسيلة المرشحة الأخرى المحرك ذا الاحتراق الداخلي الذي كانت نسخته الأصلية تعمل بالبترول أو الغاز أو حتى بالبارود. ولكن حين كان رودولف ديزل طالباً كان المحركان البخاري وذو الاحتراق الداخلي على السواء يعملان بكفاءة متدنية لا يحولان إلا زهاء 10 في المئة من الحرارة الى شغل مفيد.&

&

&

وتغيرت حياة ديزل الشاب بمحاضرة استمع اليها في ميونيخ حيث علم ان بالامكان نظرياً صنع محرك ذي احتراق داخلي يحول كل الحرارة الى شغل. واخذ ديزل على عاتقه ترجمة النظرية الى ممارسة ولكنه فشل. وكانت كفاءة محركه الأول لا تزيد على 25 في المئة. اما اليوم فان كفاءة أفضل محرك ديزل لا تزيد على 50 في المئة. ولكن كفاءة محرك ديزل الأول البالغة 25 في المئة كانت رغم ذلك تزيد مرتين على كفاءة المحركات المنافسة.&

ومن اسباب ارتفاع كفاءة محرك ديزل الطريقة التي يشعل بها الوقود. فان محركات البترول تضغط الوقود والهواء معاً ثم تحرقهما بشمعة إشعال. ولكن إذا ضُغط مزيج البترول والهواء بشدة كافية فانه يشعل نفسه بنفسه متسبباً في حدوث رجة تؤثر على ثبات المحرك. ويتمثل اختراع ديزل في ضغط الهواء فقط وتسخينه بما فيه الكفاية لإشعال الوقود حين يُضخ داخل الاسطوانة.&

وكلما ارتفعت نسبة الضغط قلت كمية الوقود المطلوبة. ويعرف كل من يريد ان يشتري سيارة ان هناك مقايضة تتبدى في ان محرك الديزل يكون أغلى ثمناً ولكنه تشغيله اقتصادي أكثر.&

ومن سوء حظ ديزل ان هذه المكاسب في الكفاءة كانت تتفوق عليها قضايا تتعلق بالموثوقية في النسخ الأولى من محركه. وتعرض ديزل الى سيل من المطالبات التي قدمها زبائنه المستائين بإعادة اموالهم اليهم. وأوقع هذا الوضع مخترع المحرك الجديد في أزمة مالية لم يستطع الافلات منها.&

ولكن ديزل استمر في العمل على محركه ودأب على تحسينه. وظهرت فيه افضليات اخرى منها ان محركات ديزل قادرة على استخدام وقود اثقل من محركات البترول، ومن هنا تسمية هذا الوقود الأثقل وقود الديزل. والى جانب كون وقود الديزل ارخص من البترول فان الابخرة التي تنبعث منه أقل. وبهذه الافضليات كان محرك ديزل مرغوباً في النقل العسكري. وبحلول عام 1904 كانت محركات ديزل تُستخدم في الغواصات الفرنسية.&

نظرية المؤامرة

وفي هذا الاطار نشأت نظرية المؤامرة الأولى عن موت ديزل. فالمخترع الالماني المفلس توجه الى لندن يوم كانت نذر الحرب العالمية الاولى تتجمع في سماء اوروبا. وصدرت احدى الصحف بعنوان ذي مغزى يقول "رمي مخترع في البحر لمنعه من بيع براءة اختراعه الى الحكومة البريطانية".

ولم يحقق اختراع ديزل امكاناته التجارية إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وظهرت اول الشاحنات العاملة بمحرك ديزل في عشرينات القرن الماضي والقطارات في الثلاثينات منه. وبحلول عام 1939 كان ربع التجارة البحرية العالمية يعمل بمحرك ديزل.

بعد الحرب العالمية الثانية صُممت محركات ديزل حتى أقوى وأعلى كفاءة مؤدية الى بناء سفن أضخم. فالوقود يلتهم نحو 70 في المئة من تكاليف شحن البضائع حول العالم. وتنقل بي بي سي عن العالم فلاتسلاف سميل ان العولمة كانت ستتحققت بقوة البخارة على نحو ابطأ من استخدام وقود الديزل. ولكن الاقتصادي براين آرثر يرى ان صعود المحرك ذي الاحتراق الداخلي خلال القرن الماضي كان حلقة مفرغة تعزز نفسها بنفسها مشيرا الى ارتباط هذا المحرك بالمسار الذي اتخذه.&

وبحسب آثر فان البخار كان لا يقل كفاءة عن النفط الخام في تسيير السيارات حتى عام 1914 ولكن نفوذ صناعة النفط المتزايد تكفل باستثمار مزيد من رؤوس الأموال في تحسين المحرك ذي الاحتراق الداخلي بدلا من المحرك البخاري. ولو تلقى المحرك البخاري قدراً مساوياً من الاستثمار في البحث والتطوير لكان من الجائز ان نقود اليوم الجيل الجديد من السيارات العاملة بالبخار، كما يرى الاقتصادي آرثر.&

&

ديزل صمم محركه&لاستخدام انواع مختلفة من الوقود من غبار الفحم الى الزيوت النباتية

&

من جهة أخرى لو حقق المخترع ديزل ما اراده فان الاقتصاد العالمي كان سيعمل بطاقة الفستق اليوم. ذلك ان ديزل صمم محركه، الذي يعمل اليوم بأحد المشتقات النفطية، لاستخدام انواع مختلفة من الوقود، من غبار الفحم الى الزيوت النباتية. وفي عام 1910 قدم ديزل خلال معرض باريس الدولي نموذجاً يعمل بزيت الفستق.&

المؤامرة الثانية!

وتوقع ديزل في عام 1912، قبل عام على وفاته، ان تصبح الزيوت النباتية مصدرا للوقود لا يقل اهمية عن مشتقات النفط. ولكن التوجه نحو استخدام الزيوت النباتية مات مع وفاة ديزل. ومن هنا نشأت نظرية المؤامرة الثانية التي اوحت بالعنوان الرئيسي القائل ان ديزل "قتله عملاء التروتسات النفطية الكبرى".&

شهدت الفترة الأخيرة تجدد الاهتمام بوقود ديزل الحياتي. فهو أقل تلويثاً للبيئة من الوقود النفطي ولكنه مثير للجدل لأنه يتنافس مع الزراعة على الأرض ويتسبب في ارتفاع اسعار الأغذية. ولم يكن هذا مبعث قلق في زمن ديزل. فان عدد سكان العالم كان أصغر بكثير والمناخ كان ثابتاً بهذا القدر أو ذاك.&

كان ديزل متحمسا للفكرة القائلة ان محركه يمكن ان يساعد على تنمية الاقتصادات الزراعية الصغيرة. وكان العالم سيبدو مختلفاً الى حد بعيد اليوم لو لم تكن الأراضي الأعلى قيمة خلال المئة سنة الماضية هي الأراضي التي اكتُشف فيها النفط ولو كانت بدلا من ذلك اراضي يُزرع فيها الفستق.&

لا يسع المرء إلا ان يتكهن في هذا الشأن مثلما يتكهن بما حدث للمخترع رودولف ديزل. وحين ظهر جثمانه بعد عشرة ايام كان متفسخاً لا يمكن تشريحه بل ان افراد طاقم السفينة رفضوا انتشاله ونقله على متنها.&


أعدت "ايلاف" هذا التقرير بتصرف عن بي بي سي. الأصل منشور على الرابط التالي:

http://www.bbc.co.uk/news/business-38302874