«إيلاف» من الرباط: في شهر ابريل 1969 وقبل أيام على انعقاد أول مؤتمر لقمة الدول الإسلامية بالرباط ، كصرخة احتجاج وغضب من المسلمين على إسرائيل التي استباحت حرمة المسجد الأقصى لما أضرم النار فيه،من وصف بأنه مخبول عقليا ، محدثا استنكارا دوليا واسعا.

لكن هذا الحادث غير المسبوق، أيقظ إرادة سياسية وغيرة دينية في الملكين الراحلين : فيصل بن عبد العزيز والحسن الثاني، فكان الإعلان عن ميلاد منظمة المؤتمر الإسلامي في العاصمة المغربية ، إحدىنتائج القمة الناجحة التي هبت لحضورها جميع الدول الإسلامية .

في ذلك الوقت، واجه الملك الحسن الثاني الداعي والمستضيف للقمة إشكالا دينيا وسياسيا : كييف يمكنه أن يستثني دعوة موريتانيا التي لا يعترف بها المغرب رسميا وحرمانها من حضور القمة ، وهي التيتحمل اسم الجمهورية الإسلامية .

فوجئ المغاربة ذات صباح ببيان رسمي، يعلن تعيين سفير لبلادهم في نواكشوط ، في شخص أحد رجالات الوطنية الراحل قاسم الزهيري ، الوزير الذي تحمل مسؤوليات رفيعة في حكومات سابقة وعضواللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال في ذلك الحين .

وقفت الطبقة السياسية مذهولة أمام هذا الانقلاب في التعاطي مع الشأن الموريتاني .تساءل كثيرون" كيف أقدم الملك الحسن الثاني،على هذا القرار الجريء، وهل ناقش الأمر مع الزعيم علال الفاسي، رئيسحزب الاستقلال الذي آمن طول حياته بأن حدود المغرب التاريخية تنتهي عند نهر السنغال؟".

كيف كان رد فعل الفاسي، وهو يسمع بيان وزارة الخارجية المغربية بالاعتراف بموريتانيا؟ ليس هذا فقط بل تعيين سفير من قيادة حزب الاستقلال ، ممثلا للمغرب لدى الجارة الجنوبية الجديدة .

الملك خالد بن عبد العزيز في لقاء مع الملك الحسن الثاني والرئيس الموريتاني الأسبق محمد خونا ولد هيدالة 

طوي ملف دبلوماسي

لا تعرف تفاصيل ما جرى في ذلك الوقت المهم أن السفير الاستقلالي التحق بمقر عمله في نواكشوط ، بسرعة وعاد بعد ايام ليكون إلى جانب الملك الحسن الثاني وهو يستقبل الطائرة التي حطت بمطار الرباط سلا، مقلة ضيفا خاصا هو الرئيس الموريتاني،المختار ولد دادة .

شارك الرئيس ولد دادة في أشغال القمة، وعومل بروتوكوليا مثل باقي قادة الدول الإسلامية ، حفاوة خاصة واستقبال لائق برئيس دولة . هكذا ومنذ ذلك الشهر(إبريل) طوي ملف دبلوماسي كبير وثقيل ظل لسنوات عبئا على المغرب، حائر في كيفية إغلاقه.

لم يعلق الزعيم علال الفاسي، على القرار وظل صامتا بخصوصه إلى حين رحيله عام 1974، لكن الثابت أنه تفهمه لاعتبارات سياسية ، ناسيا الجوانب العاطفية والدينية والحنين إلى ماضي مجيد لن يعود .

ومنذ تاريخ الاعتراف بموريتانيا ،اختفت من أدبيات حزب الاستقلال المطالبة باسترجاعها وأدرجت القضية ضمن ملفات التاريخ.

كان الملك الحسن الثاني، شاعرا أن وجود الدولة الموريتانية الفتية أصبح أمرا واقعا ، فقد لاقت الاعتراف من لدن دول كثيرة ضمنها دول عربية :تونس ، الجزائر ، مصر.. وغيرها إضافة إلى قوى دولية نافذة بل إنها استفادت من تناقضات الحرب الباردة باصطفافها في المعسكر "الثوري" .

أدرك ملك المغرب أن الوضع الدولي والإقليمي بتعقيداته وإشكالاته في تلك الفترة ، لا يصب في مصلحة مطالب المغرب التاريخية .يمكن القول في هذا الصدد، إنه كان ذا رؤية إستراتيجية بعيدة المدى ،مبتدأها ومنتهاها قضية الصحراء التي آمن الملك أنه يستحيل استعادتها من دون التنسيق التام مع الشقيقة موريتانيا . وسينصف الزمن رهانه لاحقا ، فقد وجد الحليف المخلص في الرئيس ولد دادة ، حين اندلعمشكل الصحراء عام 1975 حين احتدم الصراع بين المغرب والجزائر، علما أن الرئيس ولد دادة ، واجه جبروت الغول الجزائري، وتهديد الرئيس الراحل هواري بومدين ، بالإمكانات البسيطة التي تتوفرعليها نواكشوط ، لكن ولد دادة . كان واثقا من وقوف الملك الحسن إلى جانبه في السراء والضراء.

حلف تاريخي

ومن دون الإطالة في التفاصيل التاريخية ، فقد أرسى الحسن الثاني وولد دادة ، ركائز حلف تاريخي، ساهم كثيرا في حلحلة ملف نزاع الصحراء، واستطاع الحليفان أقناع إسبانيا الدولة الحامية والمستعمرةبالمغادرة وبالتوقيع على اتفاق مدريد الثلاثي ، فسلمت بموجبه الصحراء إلى المغرب وجزء منها إلى موريتانيا، ستتخلى عنه لاحقا ليعود إلى المغرب.

صحيح أن الجزائر طعنت في اتفاق مدريد، لأنه أقصاها كطرف معني، وتبعتها في الرفض جبهة البوليساريو، التي اعتبرت نفسها الممثل الشرعي لمن تسميهم "الشعب الصحراوي" الذي لم يتجاوز تعدادهالسبعين ألف نسمة لما انسحبت إسبانيا من الصحراء منتصف عقد السبعينيات ، حسب أرقام إحصاء السكان الذي أجرته إسبانيا.

ورغم التطورات المتلاحقة وسلسلة الانقلابات العسكرية المتوالية، الناجحة والفاشلة التي شهدتها موريتانيا منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، بدءا بالإطاحة بنظام الرئيس ولد دادة، وقيام نظام موال لجبهةالبوليساريو، برئاسة العقيد محمد خونا ولد هيدالة، فإن الملك الحسن الثاني تحمل صدمة الانقلاب ،من دون أن يقطع الأواصر مع موريتانيا، متحملا المواقف غير الودية للنظام العسكري الجديد الذي لم يستمركثيرا، إلى أن استعادت العلاقات طبيعتها ودفئها المفقود واستأنفت الصلات بين البلدين ،وكثرت الزيارات الرسمية، وتدفق متبادل بين مواطني البلدين ، بل أصبحت العلاقات محكومة بما يحدث بين الدول منصعود وهبوط ، تبعا لتضارب المصالح وتباعد وجهات النظر حيال قضية ما .

وحافظ الملك محمد السادس من جهته على الإرث الدبلوماسي لوالده ، حيال الشقيقة موريتانيا باعتبارها عمقا استراتيجيا لبلاده وممرا نحو إفريقيا . لم يكترث الملك كثيرا لأقاويل روجتها جهات إقليمية لهامصلحة في تعكير الأجواء بين الرباط ونواكشوط ، ومضى بإصرار في توثيق عرى التعاون بين بلاده وموريتانيا .

وفي هذا السياق ، فإنه مهما تكن التبريرات التي اتخذها زعيم حزب الاستقلال، حميد شباط ، ذريعة للتلفظ بما قاله في اجتماع نقابي داخلي ، فإن تصريحه ، بصرف النظر عن النوايا والخلفيات والسياق العام، خطأ دبلوماسي جسيم ، لم يراع فيه صاحبه مقتضيات الجوار ولا الأهمية الاستثنائية لعلاقات بلده في الحاضر والمستقبل مع موريتانيا أولا وإفريقيا ثانيا.

إقحام المسألة الموريتانية

وهذا البعد الجيو- سياسي، الغائب عن شباط جعل زعيم حزب الاستقلال، يقحم المسألة الموريتانية في أتون الصراع السياسي الداخلي في المغرب .

كان طبيعيا وواجبا، مسارعة العاهل المغربي، لاحتواء المشكل الذي فجرته كلمات غير محسوبة العواقب . وربما تحولت الضارة إلى النافعة، كما يقال ، بمعنى أن فلتة لسان شباط أتاحت الفرصة للبلدين لتصفيةالقضايا العالقة بينهما، ونجحا في صد الرمال الكثيفة التي تطايرت في الصحراء ، فكادت أن تحجب الرؤية السليمة والطريق الواضح الذي يجب أن تسير فيه العلاقات الخاصة بين البلدين.

في هذا الصدد ، يشير كثيرون إلى أن الأزمة العابرة ، ما كان لها أن تحدث، لو كان السفير المغربي السابق في مكان عمله بنواكشوط . ومن المؤسف أن يتزامن الخلاف المفاجئ مع رحيله إلى دار البقاء ، وهوالذي أمضى قريبا من الموريتانيين عقودا من الزمن، بحيث كلما فكرت الرباط في نقله إلى عاصمة أخرى ، إلا وعبر الأشقاء الموريتانيون عن الرغبة في بقائه في عاصمتهم .

والسفير الراحل عبد الرحمن بن عمر، جمع في حياته بين الخبرة الدبلوماسية والخلفية الاستخباراتية .مكنته إقامته المديدة في موريتانيا ، من التعرف على خصوصيات المجتمع الموريتاني وتلابيب وتعقيداتالنسيج السياسي والحزبي والقبلي في بلد المليون شاعر، مثلما أنه كان "عين" المغرب الأمنية اليقظة على تحركات عناصر جبهة البوليساريو في موريتانيا . معروف أن السفير الراحل هو من اقنع قياديين كبارافي الجبهة الانفصالية، بالعودة إلى المغرب، الوطن الأم .

تجدر الإشارة الى ان الخلاف الأخير ، بين المغرب وجارته الجنوبية، ساهم في إنارة طريق المستقبل أمامهما ؛ فمهما تكن إشكالات الحاضر السياسي ، فإنها لا يمكن أن تمحو وتطوي قرونا من الروابطوالصلات البشرية والإنسانية المتشعبة في جوانبها الدينية الروحية والعلمية والتجارية والأسرية . فما زال المغاربة يثنون حتى الآن على أهل "شنقيط" كونهم رمز العلم والتقوى والورع .