&ترتب عن إنشاء قناة عابرة للمحيطات ثمن باهظ دفعته وتدفعه بنما، بموت آلاف العمال، وسيطرة الولايات المتحدة التي ولدت فصلًا عنصريًا أثار اضطرابات عميقة.

بنما:&حين عبر فاسكو دي بالباو برزخ بنما مشيًا على الأقدام في عام 1513، لم يكن في نيته أن يصبح أول مستشكف أوروبي يصل إلى المحيط الهادئ. لكن رحلته على الأقدام كشفت أن موقع بنما الاستراتيجي كنز لا يقل حجمًا عن الكنوز التي نهبها غزاة اميركا اللاتينية لتقديمها إلى ملوك أسبانيا. بعد اكتشاف بالباو هذا، لم يتأخر البلاط الأسباني في تخيل قناة تخترق بنما. لكن بسبب مستوى التكنولوجيا وقتذاك كان بناؤها متعذرًا. وفي العقد الأول من القرن السادس عشر، حين أمر العاهل الإسباني الملك تشارلز الأول المسؤولين في بنما بدراسة بناء قناة جديدة هناك، رد عليه احد هؤلاء المسؤولين بالقول: "ليس هناك أمير واحد في العالم لديه القدرة على تحقيق ذلك".&
&
&
توترات دولية
&
ظل البرزخ مع ذلك طريقًا بريًا مهمًا لقرون عدة. وحين نجح كونسورتيوم من الشركات الاميركية في مد خط للسكة الحديد عبر غابات بنما الكثيفة في عام 1855، لاقى الخط اقبالًا واسعًا. لكن كثيرًا من سكان المنطقة التي يمر فيها&الخط لم يكونوا راضين. بعد عام على افتتاحه، اندلعت اشتباكات بينهم وبين المسافرين بالقطار على هذا الخط.&
&
حدثت توترات دولية ايضًا. وعمد المسؤولون الاميركيون متشجعين بالتوجهات التوسعية للرئيس ثيودور روزفلت إلى تعميق الخلاف بين بنما وكولومبيا بحيث عندما انهارت محادثات البنميين مع كولومبيا سارعت الحكومة الاميركية إلى دعمهم وتمكينهم من الاستقلال عن كولومبيا. في المقابل، مُنحت الولايات المتحدة حق بناء قناة تخترق عرض البلاد وبذلك تحقيق حلم عمره قرون للربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ.&
&
لكن الحلم تحقق بثمن باهظ دفعته بنما، إذ اشترطت الولايات المتحدة عليها أن تتنازل عن شريط بعمق 5 أميال على كل من جانبي القناة الجديدة التي تمتد 48 ميلًا، وأن تكون هذه الأرض تحت سيادة الولايات المتحدة عمليًا. اصبحت&هذه الرقعة تُعرف باسم منطقة بنما.&
&
افتُتحت قناة بنما رسميًا في 4 أيار/مايو 1904. وبعد أن بسطت الولايات المتحدة سيطرتها على المنطقة، بدأ العمل على شق القناة نفسها، وبناء بيوت ومدارس ومستشفيات ومكاتب ومنشآت ترفيهية لآلاف السكان الاميركيين الجدد الذين يسمون انفسهم "مناطقيين" نسبة إلى منطقة قناة بنما.&
&
&
ثمن بشري باهظ
&
حكم منطقة القناة نظام هرمي ذو تراتبية اجتماعية صارمة. كانت المكانة الاجتماعية والرواتب تُقرَّر من خلال الجمع بين مؤسسة عسكرية هرمية وقوانين منطقة القناة. في حين كان يُسمح للمتزوجين بالسكن في بيوت، فإن العزاب فُرض عليهم أن يعيشوا في سكن مشترك.&
&
كما فرضت هذه القوانين المحلية نظام فصل عنصريًا بشكل سافر. وجرى تقسيم السكان إلى عمال بيض وسود بالدرجة الرئيسة، أغلبيتهم مهاجرون من جزر الكاريبي.&
&
كان من الطبيعي أن يتحمل العمال السود في الغالب العبء الأكبر من المخاطر المقترنة ببناء القناة الجديدة. لقي&آلاف العمال السود من جزر الهند الغربية حتفهم في أثناء نقل جبال التراب من مسار القناة وإقامة البوابات العملاقة لتمكين السفن من العبور فوق تضاريس بنما الجبلية. وأسهمت في المجزرة الأمراض وظروف العمل المزرية، وفي النهاية، كلف بناء القناة حسب الأرقام الرسمية ارواح 5609 عمال، بينهم 350 عاملًا فقط من البيض.&
&
ينقل ديفيد ماكالوف في كتابه الذي يؤرخ بناء القناة عن العامل الكاريبي الفريد دوتن قوله: "لن أنسى ابدًا عربات القطار التي كانت تُحمَّل يوميًا بجثث الموتى وكأنهم من أخشاب الغابات".&
&
&
حد أدنى من المنافع
&
حين بدأ تشغيل القناة اخيرًا في آب/أغسطس 1914 مدشنًا عبور مواكب من السفن الحربية والتجارية، تحسنت أوضاع "المناطقيين" غير المحسوبين على الملونين. كان هؤلاء يتباهون بأنهم لن يغادروا منطقة القناة ابدًا إلى العاصمة البنمية لأن كل أسباب الحياة الاميركية المرفهة موجود في منطقة القناة.&
&
بما أن وظيفة منطقة القناة الرئيسية هي الدفاع عن القناة، كان عدد سكانها يتغير بحسب العمليات العسكرية الاميركية، بالغًا ذروته بنحو 100 ألف شخص خلال الحرب الكورية. لكن نسبة كبيرة من المدنيين ايضًا كانوا يعيشون في منطقة القناة. وحين أُغلقت المنطقة أواخر القرن العشرين، شجب كثير من سكانها السابقين قرار غلقها واعادة المنطقة إلى السيادة البنمية. ما زال سكان منطقة القناة السابقون يشكلون جماعة متلاحمة يلتقون سنويًا في تامبا في&ولاية فلوريدا ليتذكروا بحبوحة العيش في المنطقة.&
&
لكن آثار القناة والشريط الخاضع للسيطرة الاميركية على جانبيها لم تكن إيجابية بالنسبة إلى بنما نفسها. فمنذ البداية، كانت اعمال البناء الاميركية موجهة بحيث لا تقدم إلى البنميين اصحاب الأرض إلا الحد الأدنى من المنافع الاقتصادية. وتوصلت ورقة عمل اعدها الباحثان نويل ماوير وكارلوس يو إلى أن المسؤولين الاميركيين: "تعمدوا ألا تخرج منافع اقتصادية من منطقة القناة إلا بالحدود الدنيا"، وذلك بمنع البنميين من العمل فيها ومنع الشركات البنمية من توفير خدمات للمنطقة أو للسفن المارة عبرها.&
&
&
جدار برلين آخر
&
كانت منطقة القناة وجودًا شاذًا بنظر سكان العاصمة البنمية. وعلى الرغم من السماح لهم نظريًا بدخول المنطقة، فإن سلطاتها كانت تضع عراقيل مختلفة لا تشجع على الدخول. نقلت صحيفة غارديان عن المؤلف مايكل دونوغو الذي له كتاب عن الجوانب العرقية والثقافية المرتبطة بمنطقة قناة بنما قوله: "إن البنميين لم يكن في مقدورهم عبور بلدهم احيانًا من دون أن توقفهم شرطة أجنبية".&
&
بحلول الخمسينات، بلغت حدة التوتر مستوى وافقت معه السلطات على بناء جدار على امتداد الحدود بين العاصمة بنما سيتي ومنطقة القناة. وعلى الرغم من أن الجدار لم يحد تمامًا من دخول المنطقة، فإنه أجج مشاعر العداء التي بلغت نقطة حرجة في عام 1964. في 9 كانون الثاني/يناير من ذلك العام، نظم طلاب غاضبون من المعهد الوطني البنمي مسيرة دخلت منطقة القناة وأصروا على رفع علم بنما فوق مدرسة بالباو الثانوية. اندلعت اشتباكات مع اشخاص رفضوا رفع العلم، وردت السلطات باستخدام الغاز المسيل للدموع. واسفرت اعمال العنف التي كان هذا الحادث شرارتها عن إلحاق الأضرار على جانبي منطقة القناة، بما في ذلك الجدار. فجر الحادث ردات فعل دولية شديدة سلطت الضوء على الانقسامات الصارخة بين العاصمة البنمية ومنطقة القناة. يتذكر الطالب خوسيه بونسي وقتذاك ما سماه "فصلًا عنصريًا كان موجودًا في الأجواء الكولونيالية للقناة".&
&
بعد الحادث، زار سفير كولومبيا في الولايات المتحدة قاطع الجدار المتضرر حيث اعلن أن في بنما جدار برلين آخر.
&
&
انتهت النزعة التوسعية
&
أحدثت الواقعة ازمة داخل الولايات المتحدة. وعلى الرغم من تعامل الرئيس الاميركي ليندون جونسون بهدوء مع القضية، معلنًا بقاء السيادة الاميركية على منطقة القناة "في الوقت الحاضر"، فإن أيام المنطقة بوصفها ارضًا اميركية كانت معدودة. انتهت النزعة التوسعية التي ظهرت اوائل القرن العشرين لتحل محلها رقعة شطرنج استراتيجية على خلفية الحرب الباردة.&
&
وتوصل المخططون الاستراتيجيون الاميركيون إلى الطريقة المثلى هي التنازل عن السيطرة على القناة كمقايضة لإبعاد بلدان اميركا اللاتينية عن الشيوعية من النمط السوفياتي.&
&
في عام 1977، وقع الرئيس الاميركي جيمي كارتر والرئيس البنمي عمر توريخوس معاهدتين لانهاء السيطرة الاميركية على منطقة القناة والقناة نفسها على مراحل. وعلى الرغم من أن الاتفاق لقي ارتياح البنميين عموما، فإن مشاعر العداء للاميركيين ظلت قوية.&
&
بحلول عام 1989، تغيرت بنما سيتي من عاصمة سياحية ناعسة قبل بناء القناة إلى مركز كبير للنشاط المصرفي الدولي تدعمه التجارة الدولية وانتعاش كارتيلات المخدرات الكولومبية التي تبحث عن مكان لتبييض اموالها.&
&
وخلال الانتخابات التي جرت في ذلك العام، بدا أن الرئيس مانويل نوريغا هُزم أمام منافسه غييرمو اندرادا. وكان نوريغا عميلًا مأجورًا لوكالة المخابرات المركزية الاميركية، لكنه ابتعد عن موقف الصداقة مع الولايات المتحدة &إثر خلاف بينه وبين إدارة ريغان. وبعد الانتخابات، رفض نوريغا التنحي مدعيًا أن الولايات المتحدة تلاعبت بنتيجة الانتخابات.&
&
&
حشرجة الموت الأخيرة
&
في 15 كانون الأول/ديسمبر 1989، تصاعدت الأعمال العدائية بعد إصابة أربعة جنود اميركيين بجروح، احدهم توفي لاحقا، إثر تعرضهم لهجوم من مجموعة من البنميين الغاضبين. بعد خمسة ايام اجتاحت القوات الاميركية بنما في هجوم سماه البيت الأبيض "عملية القضية العادلة". كان الهدف الرئيسي للعملية اسقاط نوريغا. وامتد هجوم شنته القوات الاميركية على مقر القوات المسلحة البنمية إلى حي ايل تشوريو الفقير متسببًا في وقوع خسائر واصابات بين المدنيين وممتلكاتهم.&
&
بعد ساعات على الغزو الاميركي، أُسقط نوريغا وأدى اندرادا القسم رئيسًا. لكن دمارًا لحق بمناطق واسعة من العاصمة البنمية. وفي حين أن أرقام البنتاغون تشير إلى مقتل 516 بنميًا في النزاع فإن منظمات حقوقية في بنما قالت إن عدد القتلى يصل إلى 3500 بنمي.&
&
كان الغزو حشرجة الموت الأخيرة لنحو قرن من السيطرة الاميركية في بنما. وقالت روزا ترنر من سكان بنما سيتي لصحيفة غارديان بعد 25 عامًا على الغزو: "لا أتمنى مثل هذا الدمار حتى لألد اعدائي، فنحن لا نعرف مكان رفات أحبائنا الذين قُتلوا لنضع ازهارًا على قبورهم".&
&
شهدت بنما سيتي تغيرًا جذريًا منذ تلك الأيام كما تؤكد العمارات الشاهقة في الحي التجاري وسط المدينة. واستمر انتعاش النشاط المصرفي بلا هوادة في السنوات الأخيرة ومعه الصفقات المشبوهة، كما كشفت أوراق بنما.&
&
&
توسعة جديدة
&
من جهة أخرى، ينتظر طابور طويل من سفن الشحن لعبور القناة، تنضم إلى هذه السفن قريبًا سفن أكبر منها حين تُفتتح التوسعة الجديدة للقناة في أيار (مايو)، لتمكين سفن يزيد حجمها ثلاث مرات على الحدود الحالية من العبور.&
&
من الجائز أن يهدد موقع قناة بنما ذات يوم ممر مائي جديد في نيكاراغوا رغم توجسات سكان المنطقة التي من المقرر أن يُنفذ فيها المشروع كما كان البنميون متوجسين بشأن منطقة القناة. في هذه الأثناء، ما زالت منشآت عديدة موجودة في منطقة القناة القديمة في بنما. بعد رحيل الاميركيين نتيجة غلق المنطقة، استملك بنميون أثرياء بعض البيوت الفاخرة التي بُنيت في المنطقة، فيما ظلت أبنية أخرى مهجورة. &
&
على الرغم من اللامساواة في بنما سيتي الحديثة اليوم والعواصف التي هزت المدينة خلال شطر كبير من تاريخها، فإن البنميين فخورون بهويتهم وثيقة الالتصاق بالقناة. وكما كتب معلق في صحيفة لا ايستريلا دي بنما أخيرًا: "القناة مورد طبيعي، هو ملكنا وبالتالي يتطلب مساهمة مسؤولة وطنية حقيقية منا جميعًا".&
&