وقف محمد صفوان أمام نافذة منزله، ينظر إلى البحر الذي سرق منه والديه وثلاث شقيقات وشقيقة زوجته التي كانت حاملاً في الشهر الثامن، ويغوص في ذكرياته الأليمة، ليتمتم بعدها قائلاً: "إنها مشيئة الله ولا فائدة من البكاء الآن"، لكنه يعبّر عن مدى كرهه لمنظر البحر بعد ما حصل معه.

إن الكره الدفين الموجود عند محمد ليس موجودًا عند غيره من اللبنانيين الذين رافقهم الحظ أثناء سفرهم ووصلوا إلى أماكنهم بأمان، ففي طرابلس يدندن أحد المواطنين في منطقة الميناء، يبتسم وهو يستمع إلى رسالة صوتيه على الواتساب من حفيدته البالغة من العمر أربعة أعوام، والتي وصلت صباح ذلك اليوم إلى الجزيرة اليونانية مع والديها، تخبر جدها بحماس بريء وطفولي: "جدي اشتقت إليك… لقد وصل&رذاذ من الماء على ملابسي وانا في القارب"، ليقول لها والدها بصوت مرتفع من بعيد: &"قولي وداعًا&لجدك وأقفلي الجوال".

إن هذه الظاهرة تتفاقم بين العائلات اللبنانية ومن المتوقع أن تنمو لهذا العام، بسبب الفساد المستشري والخلل السياسي وارتفاع معدلات البطالة وعدم المساواة والفقر، ولقد شهد لبنان مثل هذه الظاهرة بعد انتهاء الحرب الأهلية حيث عمد اللبنانيون الى الهجرة الجماعية الى الغرب وأميركا اللاتينية وأفريقيا، فمنذ القدم يشهد هذا البلد الصغير الذي يضم ١٨ طائفة حالة من عدم الاستقرار، فضلاً عن الاضطرابات التي تحصل في البلدان المجاورة والتي تؤدّي إلى إعادة رسم حدود المنطقة.

يتحدّون المخاطر ويهاجرون

‫يعبر سائق أجرة من طرابلس عن فرحته بوجود ابنه في أوروبا الذي سافر الى اليونان عن طريق البحر، ثم وصل السويد بعد رحلة دامت أسبوعين: "ليته يستطيع أن يحصل على الجنسية كي يأخذنا الى هناك"، فالكثيرون يريدون الهجرة لأنهم يعتبرون أن الحياة في لبنان بائسة، فمعظم اللبنانيين الذين يميلون الى السفر يتوجّهون الى تركيا عن طريق العبارة لأنها لا تحتاج الى تأشيرة دخول، وبعد ذلك يتواصلون مع مهربين&في المدن الساحلية مثل أزمير، ثم يأخذون القوارب الصغيرة الى اقرب جزيرة يونانية، مقابل مبلغ مالي يتراوح بين ١٠٠٠ و ٢٠٠٠ دولار، يقفزون بعدها من على بعد مسافة قصيرة ويسبحون الى الشاطئ، ليتوجهوا بعدها الى المانيا أو السويد على طول مسارات اللاجئين المعمول بها، وفي كثير من الأحيان عن طريق القطار أو سيرًا على الاقدام، اما الوضع مع اللاجئين الفلسطينيين فهو مختلف لأنهم يواجهون صعوبات في الحصول على تأشيرة الدخول الى تركيا، وغالبًا ما يتم القبض عليهم من قبل السلطات المحلية، ولقد أفاد بعض المسؤولين الفلسطينيين أن الآلاف لقوا حتفهم في عرض البحر.‬

وضع لبنان المزري

إن الوضع الداخلي اللبناني ليس بأفضل حال، خاصة مع شغور الكرسي الرئاسي وعدم الإتفاق بين القوى الإقليمية المتمثلة في إيران والمملكة العربية السعودية على مرشح توافقي، وتمديد مجلس النواب لنفسه مرتين وسط فراغ رئاسي، هذا فضلاً عن التنازع بين تيار المستقبل الذي يمثل المملكة العربية السعودية ذات الطابع السني، وحزب الله المدعوم من ايران والذي يرسم السياسة الخارجية خصوصا بعد تأمينه الحماية للنظام السوري بشار الأسد من الإنهيار، وبالتالي استمرار الحرب الأهلية في سوريا، وسط هذا التشرذم السياسي فشلت الحكومة اللبنانية في التعامل مع القضايا الرئيسة مثل أزمة اللاجئين السوريين الذين اصبحوا يمثلون واحدا مقابل خمسة لبنانيين، ورافق تلك المرحلة ازمة النفايات التي عجزت الحكومة أيضا عن حلها ما زاد الأمر سوءًا&ودفع باللبنانيين والسوريين على حد سواء إلى الهجرة عن طريق البحر.

يقول عبدالله البقار مختار إحدى البلدات في طرابلس: "إن البطالة والفقر هما السببان الرئيسان&اللذان دفعا الناس إلى الهجرة، على الرغم من الخطر الذي يرافقهم أثناء سفرهم".

ويضيف: "أكثر من ٢٠٠٠ مواطن لبناني ترك هذه البلدة بين اغسطس واكتوبر العام الماضي".

وألقى اللوم على القادة السياسيين الذين&لا يقومون بواجبهم تجاه الشعب.

طرابلس المهملة

وشهدت طرابلس اهمالاً كبيرًا من قبل الدولة، فهي تعاني الفقر المدقع اضافة الى انهيار البنية التحتية بسبب الوضع الأمني المتردي داخلها، خصوصًا&منذ اندلاع الحرب في سوريا، وعلى الرغم من انتشار أخبار الموت في عرض البحر للمهاجرين عن طريق طرابلس كما حصل مع عائلة صفوان الا ان &هذا الامر لم يوقف وتيرة الهروب وسلك طريق البحر للهجرة الى الخارج، خصوصًا مع ازدياد بطالة الشباب الطرابلسي ٥٠٪.

"لدينا الكثير من المطالب"، يقول صاحب إحدى وكالات السفر في طرابلس الذي أكّد أنّ المواطنين لبنانيين كانوا أم سوريين يقدمون كل ما يملكون من مال مقابل الهجرة، ويضيف: "أن العبّارات التي تغادر ستة أيام في الأسبوع من ميناء طرابلس تحمل على متنها نحو ٤٠٠ مسافر من اللبنانيين والسوريين، انخفض العدد قليلاً مع بداية فصل الشتاء، لكنه من المتوقع أن يزيد أضعافًا مضاعفة مع قدوم فصل الربيع، ويهاجرون بالطبع من دون عودة"، لكن شخصًا قرّر عدم القفز في اعالي البحار هو صفوان، وصمد في المكان الذي ولد وترعرع فيه متسمّرًا أمام نافذة المنزل الفارغ مردّدًا: "خسرت عائلتي في لحظة واحدة، سرقهم مني البحر وأصبحت وحيدًا".