في الحلقة الثانية من حوار "إيلاف" مع الروائي والناقد السعودي معجب الزهراني، تطرق إلى مسألة الجمال والقبح، فنادى بأن لا يتعوّد المرء على ثقافة القبح، وأكد أن أحدًا لا يتهم السعودية بـ"الإرهاب"، لكن ثمة مؤسسات تدعم اتجاهًا دينيًا متشددًا يغذّي جماعات متطرفة يمكن أن تفرز "إرهابيين".

إيلاف من الرياض: في هذه الحلقة الثانية من حوار مطول وشامل أجرته "إيلاف" مع الناقد السعودي الدكتور معجب الزهراني، يتطرق الحديث إلى موضوعات ثلاثة: الجمال والليبرالية والإرهاب. 

فيرى الزهراني أن المؤسسات التعليمية العليا في السعودية تهمل أو تعارض الثقافة الجمالية، وهذا بالنسبة إليه يعني أمرين، كلاهما مرّ: عدم الوعي بأهمية الجمال في الحياة اليومية للبشر، أو الخضوع لأيديولوجيا تُعلي من شأن ثقافة القبح لسبب أو لآخر!. ويسأل: "كيف لإنسان يعتاد القبح، ويمجّد ثقافة القبح، أن يعيش سويًا، وأن يخدم مجتمعه، ويساهم في الإنسانية المعاصرة بشكل خلاق؟".

يعترف الزهراني بأن الخطاب الصحوي لم يكن موازيًا لخطاب الحداثة أو مشاكلًا له، "بما أنه يحمل مشروعًا واضحًا للوصول إلى السلطة، واستغل الهجوم على الحداثة الوليدة الهشة لتحقيق هيمنته لا غير".

أما الثقافة بمعناها الأكاديمي المقنن، فيجدها الزهراني داخل أسوار الجامعة. وأما الثقافة بمعناها الواسع، "فهي كمعاني الجاحظ مبثوثة في طرقات المدن الحديثة وساحاتها".

وعن اتهام السعودية بأنها شكلت بيئة حاضنة لولادة تنظيمات "جهادية"، فقال: "لا أحد في ما قرأت يتهم الدولة مباشرة بدعم الإرهاب، لكن الجميع يتفق على أن لدينا جماعات مؤثرة ومؤسسات مقتدرة، دعمت وتدعم اتجاهًا دينيًا متشددًا، يغذّي جماعات متطرفة، يمكن أن تفرز "إرهابيين"، وهذا ما يجب أن نحذر منه قبل غيرنا".

 

تابع الحلقة الأولى من الحوار
معجب الزهراني: مجتمعات الجزيرة العربية... عتيقة



وفي ما يأتي متن الحلقة الثانية من الحوار:

تدريس علم الجمال في جامعة اليمامة، في بلد لا تدرس فيه لا الموسيقى والتمثيل. كيف نصل إلى هذا جمال في حياة بلا عوامل مؤثرة؟

تتكون أي ثقافة بشرية في أي مجتمع بشري من ثقافة العمل، التي تؤمّن للكائن حياته، وثقافة التدين، التي تؤمّن معنى الوجود والحياة والموت للإنسان، فردًا وجمعًا، وثقافة سياسية أو اجتماعية تنظم علاقات الفرد بأسرته وجماعته والجماعات في ما بينها، ورابعًا الثقافة الجمالية، التي تؤمّن الحاجة إلى البهجة والمتعة، وإدخال السرور إلى النفس والذهن والجسم من فترة إلى أخرى. 

فالإنسان كائن جمالي بامتياز، لأنه وحده القادر على إدراك الجميل وتذوقه وإنتاجه، ولأنه في أمسّ الحاجة إلى أن يروّح عن نفسه. فالمقصد من الثقافة الجمالية هو أن لكل مجتمع بشري فنونه الخاصة، التي تتجلى في أغانيه ورقصه وحكاياته ونقوشه على جسمه أو ملابسه وأوانيه وجدران منزله. هذه هي القاعدة العامة في أي مجتمع بشري سوي متوازن، سواءً أكان قديمًا أم حديثًا.

مقرر علم الجمال تخصص معرفي أكاديمي، سعدت بتدريسه على مدار ربع قرن في الجامعة، ولكن! لاحظت دائمًا أن هناك ما يشبه التنكر أو التهميش لهذه المادة في الجامعة الأم، بفعل تهميش كل ثقافة جمالية خارجها. ففي البدايات، كان مقررًا يقدم في الدراسات الدنيا والدراسات العليا، ثم حذف من الأولى ليصبح شبه اختياري في الثانية، ما يدلّ على أن هناك حصارًا للثقافة الجمالية في مجتمعنا. هذه مفارقة كبرى بالنسبة إليّ وأمثالي، لأن مؤسسات تعليمية عليا تهمل أو تعارض الثقافة الجمالية يعني أمرين، كلاهما مرّ: عدم الوعي بأهمية الجمال في الحياة اليومية للبشر، أو الخضوع لإيديولوجيا تعلي من شأن ثقافة القبح لسبب أو لآخر!. فالإنسان الذي يحارب الجميل لا بد أن يقبّح نفسه ومجتمعه وواقعه، وهذا ضد الفطرة، التي ظلت عليها مجتمعاتنا التقليدية حتى عهد قريب، وضد الدين، الذي تعلمنا نصوصه نفسها أن الله جميل يحب الجمال، وأن الإنسان مأمور بتأمل الحسن والجمال في ذاته وفي الطبيعة وكائناتها من حوله.

أي إنسان سوي لا بد أن يحرص على إضفاء لمسات جمالية على مظهره وفي بيته ومسجده ومكان عمله. وإذا وجّه المجتمع إلى كراهية أو تحريم الغناء والرقص والموسيقى والتمثيل والنحت والتصوير والرسم، فالنتيجة المنطقية الوحيدة أنه سيتجه، ليس فقط نحو فكر التوحش، بل نحو تعزيز ونشر ثقافة القبح في كل مجال، وهذا هو الانحراف الخطر!. فكيف لإنسان يعتاد القبح، ويمجّد ثقافة القبح، أن يعيش سويًا، وأن يخدم مجتمعه، ويساهم في الإنسانية المعاصرة بشكل خلاق؟. 

القوتان الناعمتان الأكثر أهمية وجاذبية لأي شعب أو دولة اليوم وغدًا تتمثلان في الفنون الجمالية والعلوم الحديثة. فالسينما الأميركية تؤثر في العالم بقدر تأثير علومها وتقنياتها، وعندما تذهب إلى مدن، كباريس وروما وفيينا وبراغ، ستلاحظ أن جاذبيتها الكبرى تتوزع بين المتاحف والمسارح ودور السينما وصالات الموسيقى والاحتفالات الغنائية العامة والمقاهي الأنيقة والحدائق الفاتنة.

وكيف يمكن تعزيز ثقافة الجمال في مقابل القُبح؟

حين نقارن وضعنا حاليًا بوضعنا قبل 30 أو 40 عامًا، كانت هناك تنمية جدية للثقافة الجمالية في مدننا ومدارسنا ووسائل إعلامنا. الآن لا يمكن إقامة حفلة فنية مفتوحة في مدينة كبرى، مثل الرياض، التي يصل عدد سكانها إلى 6 ملايين إنسان. لا بد إذًا من العودة إلى سويتنا وفطرتنا، كي لا نتعود على ثقافة القبح، ونحسب أنها خصوصيتنا وعنوان هويتنا. أنا ومن هم في سني تشغلنا الكتب والقراءة عن غيرها، لكن ماذا عن شباب في مقتبل العمر؟. يعيشون في مدينة مليونية، ولا يجدون فيها سينما ولا مسرحاً ولا حفلات غنائية تشبع رغباتهم، وتحرر طاقاتهم، وتنمّي مواهبهم الخلاقة؟. هذه معضلة حقيقية، وعلى المسؤولين أن يفكروا فيها أكثر من الفنانين أنفسهم، لأن الشاب عندما لا يشغل وقته بشكل إيجابي ممتع خلّاق، فسيأتي من يشغله بأمور ليست أخلاقية ولا خلّاقة، واللبيب من الإشارة يفهم.

بين حراكين

نشاهد هجومًا من الليبراليين على الصحويين وحركة الصحوة في بداية الثمانينيات. أين وقف الليبراليون والمثقفون ذلك الوقت، وأين وقف المثقف السعودي؟

مع بداية الثمانينيات، حصلت حوادث داخلية وخارجية، مثل بعضها تغيرات كبرى، تولّدت عنها هذه التيارات والإنتماءات التي تبلورت عندنا في التيار الحداثي وتيار الصحوة، ولا علاقة كبيرة بينهما في ظني. فالتيار الحداثي جاء نتيجة حراك أدبي ثقافي بدأ منذ عقود، كان حراكًا "نخبويًا" في البدء، إلا أن له ترجماته العملية في الحياة الواقعية العامة، حيث دخلت التقانة عنصرًا قويًا في حياتنا، وحققت التنمية نقلات كبيرة واضحة في كل مجال، من مكتسبات الحداثة المادية تدخل كل بيت في كل قرية وبلدة ومدينة. 

أما التيار الآخر فنتاج خطاب سياسي أيديولوجي، أبرزته الثورة الإيرانية في عام 1979، وهيّأت له أحزاب دينية كانت تروّج أن مجتمعاتنا لن تنهض وتتحرر بفكر القومية العربية أو بالأفكار اليسارية أو الليبرالية الأخرى، بل بالعودة إلى هوية الأمة وثقافتها، التي ابتعد عنها الجميع في نظرهم. كلنا ندرك اليوم أن تنظيم الإخوان المسلمين أدى دورًا كبيرًا في انتشار هذا الخطاب في بيئتنا المحلية، خصوصًا أن تربتنا البريئة شكلت بيئة خصبة لتقبل مثل هذا الخطاب الديني ظاهريًا، السياسي باطنيًا. ما أريد قوله هو أن الخطاب الصحوي لم يكن موازيًا لخطاب الحداثة أو مشاكلًا له بما أنه يحمل مشروعًا واضحًا للوصول إلى السلطة، واستغل الهجوم على الحداثة الوليدة الهشة لتحقيق هيمنته لا غير.

مرت عشر سنوات على هجوم المتشددين على مسرح جامعة اليمامة. منذ ذلك الوقت لم نشاهد عملًا مسرحيًا في الجامعة. ما سبب ذلك؟

المسرح فن اجتماعي، يحتاج مجموعة عناصر تشجّعه وتنميه، والجامعة تستضيف أو تنفذ عددًا من المسرحيات كل عام، لكنك ستصاب بالإحباط لو تشاهد الحضور، لأن هؤلاء الشباب لم يتربوا على ثقافة مسرحية، والمسرح غير معترف به في البلد أوغير مدعوم دعمًا حقيقيًا. قبل أسبوع فقط، عرضت مسرحية في الجامعة مستوحاة من إحدى روايات غازي القصيبي. لم تكن النتيجة مشجّعة أبدًا. ولعلّي أضيف أن المسرح يتراجع في مجمل بلداننا، إذ ليس له عمق في الثقافة العربية، التي تتكون من خطابات شعرية ودينية في جوهرها.

قلت إنك لم تتعلم في الجامعة في فرنسا فقط، بل في مقاهي باريس ومنتدياتها ومسارحها تعلمت الكثير، سواء بلقاء معلميك أو أصدقائك والمفكرين هناك. لم لا نرى مثل هذه الملتقيات هنا؟، لم لا نشاهد لقاءات حقيقة بين أساتذة الجامعات وطلابهم وغيرهم من أفراد المجتمع خارج أسوار الجامعات؟

درست في السوربون في الحي اللاتيني، عندما تخرج من الجامعة تجد عشرات دور السينما والمقاهي والمتاحف والحدائق والساحات، التي كثيرًا ما تتحول إلى فضاءات للاحتفالات الغنائية الجماهيرية. ولا يمر أسبوع أو أسبوعين إلا وتنظم ملتقيات ثقافية وعلمية معتبرة هنا وهناك، فالحراك الثقافي العربي الخلاق، الذي تجده في باريس، قد لا يتوافر مثله في أي عاصمة عربية. فالثقافة بمعناها الأكاديمي المقنن تجدها داخل أسوار الجامعة. أما الثقافة بمعناها الواسع، فهي كمعاني الجاحظ مبثوثة في طرقات المدن الحديثة وساحاتها، وهذا ما قصدت بعبارتي تلك.

رب ضارةٍ نافعة

تتهم بعض الدول الغربية السعودية بدعم الإسلام المتطرف في أوروبا، وبأن مناهجها وسياستها الداخلية من أسباب ظهور القاعدة وداعش على الرغم من أن اسم السعودية لا يبرز في أي تحقيق. كيف تفسر ذلك؟

من خلال متابعتي هذا الخطاب في بعض الصحف والمجلات أو في بعض القنوات الأوروبية والأميركية، لعلّي أقول "رب ضارةٍ نافعة". فالإعلام الغربي حر مستقل في جزء منه، وموجّه بشكل خفي في جزء آخر، لكن حين نجد نوعًا من التوجّه المشترك للتركيز على بلدنا، فعلينا أن نتبنه إلى أمرين أساسيين: يتعلق الأول بمكانة المملكة، وقوة تأثيرها في عالم اليوم؛ ويتعلق الثاني ببعض الظواهر والممارسات، التي نعدها عادية عندنا، لكنها ما عادت مقبولة أو مبررة عند آخرين. 

لا أحد في ما قرأت يتهم الدولة مباشرة بدعم "الإرهاب"، لكن الجميع يتفق على أن لدينا جماعات مؤثرة ومؤسسات مقتدرة دعمت وتدعم اتجاهًا دينيًا متشددًا يغذّي جماعات متطرفة، يمكن أن تفرز "إرهابيين"، عندنا وعندهم، وهذا ما يجب أن نحذر منه قبل غيرنا. بل إن الصدق مع الذات يتطلب منا أن نطرح على أنفسنا، وبكل جدية، هذا السؤال المحرج: لماذا لا نشاهد شابًا هنديًا أو بوذيًا يفجّر بشرًا في معبد هندوسي أو بوذي، بينما يفعلها شبابنا المسلم بكل حماقة ورعونة في مساجدنا؟. من يصدق اليوم أن بلدًا طموحًا مؤثرًا يحرم طبيبة أو معلمة أو سيدة أعمال من حق بسيط كقيادة السيارة؟. المحصلة أنه إذا كان الإعلام الغربي يباشر نقدًا أو هجومًا على المملكة، فالمؤكد أن عندهم وجهة نظر مختلفة. يجب أن ننصت ونحاور ونتعلم ونصلح، قبل أن نرد أو نتهم. كتبت مرارًا وفي عدد من المناسبات أنه لا يمكن لأي مسؤول أو مثقف سعودي أن يدافع بشكل وجيه مقنع عن أمرين: التشدد في خطابنا الديني، والوضع المتردي للمرأة، التي كان بعض أحوالها قبل عقود أفضل مما هو عليه اليوم.

من تقصد بهذه المؤسسات داخل الدولة التي تصدّر هذا الفكر ؟

السؤال لا يوجّه إليّ، بل إلى المسؤولين أنفسهم في مختلف مواقعهم. لديّ قناعة راسخة بأن المعاهد العلمية والجامعات الدينية وأقسام التربية الإسلامية في الجامعات الأخرى، فضلًا عن المساجد نفسها، كانت ولا تزال تؤدي الدور الأهم في توجيه الفكر الديني، إما نحو التطرف والتشدد والصراع، وإما نحو التعارف والتسامح والتعايش والتعاون.