من على سفوح جبال الألب إنطلق ادريانو أوليفيتي ‫البالغ من العمر ٣٢‬ عاما في رحلة عملية مفعمة بالنجاح والتطور، الى أن أطلق عليه البعض لقب أسطورة في الحضارة الإيطالية، حيث تولى عام ١٩٣٣ منصب المدير العام ‫لمصنع آلة كاتبة، أسسه والده خارج المدينة الإيطالية الخلابة إيفرية‬.

روما: اعتبر مصنع أوليفيتي من الشركات العائلية الصغيرة، ولكن سرعان ما تطور على مدى ٣٠ عامًا &ليصبح ظاهرة عالمية، ولقد كانت مدينة إيفرية محور تجارب طموحة في كيفية بناء ما أسماه أوليفيتي "المدينة الصناعية البشرية"، يقول أوليفيتي في كتابه سيتاديل أومو (مدينة مان) إن الشارع والمصنع والبيت هما العناصر الأكثر جوهرية ووضوح &لحضارة التطور، ويشتكي من توسع المدن الإيطالية بطريقة عشوائية ومفككة، ووصفها بالمادية والبعيدة عن الرؤية العامة للحياة.

قبل أسابيع قليلة من وفاته عام 1960، دعا اوليفيتي للتنمية الحضرية على نطاق الإنسان، وذلك بهدف الانسجام والتناغم بين الحياة الخاصة والحياة العامة، بين العمل والمنزل، وبين مراكز الاستهلاك ومراكز الإنتاج.

في ذلك الوقت أصبحت شركة أوليفيتي من الشركات الضخمة، ولها مصانع في خمسة بلدان، وتوزع منتجاتها في أكثر من 100 بلد، &تميزت منتجاته بالأناقة، خاصة الآلات الكاتبة المحمولة، صاحبة الشعبية الواسعة من قبل كبار الكتّاب، أمثال الروائي الأميركي جون أبدايك والروائي كورماك مكارثي، واعتبرت آلياته من رموز التصميم الإيطالي بعد الحرب.

&

تطوير المدينة&

لم يقتصر عمل اوليفيتي على بناء المصنع وتطويره، بل لعب دورًا محوريًا في تحويل بلدة ايفريه من بلدة ريفية صغيرة الى مركز&رئيسي&للصناعة الإيطالية، حيث جذب المهندسين والمصممين وعمال المصانع من جميع انحاء البلاد، وفي أواخر الخمسينات كان هناك أكثر من 14000 عامل في مصانع أوليفيتي في إيطاليا، ومعظمهم كانوا في إيفرية، هذا فضلًا عن تضاعف عدد السكان بين عامي 1930 و 1960 من 15000 الى 30000 نسمة.

ولكن بدلا من الأبراج السكنية الكبيرة والمناطق الصناعية، اتسمت إيفرية بالهندسة المعمارية، وبنى اوليفيتي بالتعاقد مع بعض المهندسين المعماريين البارزين في البلاد، أحياء جديدة للعمال، مخططة بدقة مع وجود الكثير المساحات الخضراء، اضافة الى مبانٍ صغيرة تتألف من ثلاثة أو أربعة طوابق فقط.

يقول حفيد أوليفيتي بنيامينو دي ليغوري "إن مباني المصنع الجديد بنيت من الزجاج، بهدف افساح المجال للعمال بالتمعن في الجبال والوديان التي جاؤوا منها، اضافة الى ان الناس خارج المصنع يستطيعون رؤية ما بداخله"، ويضيف: "لقد تم دمج كافة المصانع وأماكن الإنتاج الخاصة بهم في النسيج الحضري للمدينة"، ووصف اهداف جده القاضية بإيجاد وسيلة "لدمج الإنسان مع الآلة وانسجامهما مع بعض، اضافة الى مناداته بإستخدام التكنولوجيا بطريقة إنسانية، لأنها كانت تصب في خدمة الإنسان".

&

العمال فرحون

"كان أوليفيتي يدفع المزيد من المال للعمال، وكانت الظروف أفضل مما كانت عليه في الشركات الأخرى في ذلك الوقت"، يقول فيديريكو بيلونو، ممثل عمال المعادن النقابية، ويضيف: "كان هناك تنظيم رائع داخل مصانع أوليفيتي، اضافة الى تقديمه خدمات غير متوفرة في اي مكان آخر".

وقد تم تصميم مصانع أوليفيتي بمساحات شاسعة، ويوجد فيها مطاعم الوجبات السريعة، وملاعب وقاعات للمناقشات وعروض سينمائية، والمكتبات مع عشرات الآلاف من الكتب والمجلات، أما في الخارج، فقد تم بناء شبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك دور الحضانة، ومستشفى إيفرية.

كما ساعد أوليفيتي أيضا بتمويل مخططات رئيسية &للمدينة والمنطقة المحيطة، ففي عام 1959 تمت الموافقة على خطة جديدة لإيفرية، تقضي بتنظيم شبكة من المناطق السكنية المتكاملة وإنشاء الطريق الدائري، وجسر جديد على نهر دورا، وتوسيع &المناطق الصناعية ولامركزيتها، وتجديد المركز التاريخي.

"ظل اوليفيتي ينادي من العام 1930 الى ما قبل وفاته عام 1960 &بضرورة التخطيط للمدينة التي يتم تنظيمها"، تقول باتريسيا بونيفازيو، أستاذة التخطيط العمراني في جامعة البوليتكنيك في ميلانو، وتضيف: "إن مصنع أوليفيتي دعم اقتصاديا دراسات ومقترحات التخطيط الحضري في المدينة بشكل عام".

في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن الـ 20، تم تحويل الآلاف من البلدات الصغيرة والمدن في جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية الى مدن صناعية، كما كان هناك العديد من التجارب للتطوير مثل بورنفيل في المملكة المتحدة، قرب برمنغهام، الذي بنته كادبوري من أسرة الكويكرز كـ "قرية نموذجية".

&

اوليفيتي والسياسة

إلى ذلك، فإن مخطط أوليفيتي الحضاري هو جزء من مشروع سياسي كبير. في أواخر عام 1940 &أسس حزبًا جديدًا اسماه &حركة مجتمع (Movimento Comunità)، وانتخب رئيسا لبلدية إيفرية في عام 1956، وبعد عامين أصبح عضوًا في البرلمان وفي الحكومة الوطنية، وفي هذا الإطار يقول اوليفيتي: "إن السياسة الإيطالية يجب أن تعمل على إعادة هيكلة البلديات، وإنشاء اتحاد بلديات مستقل نسبيًا"، وقال "إن المجتمع المثالي يجب أن يكون بين 75000 و150000 نسمة"، وخلص في كتابه سيتا ديل اومو الى ان "المصانع العملاقة، والمدن الكبيرة المزدحمة والدول المركزية والمتجانسة، والكتل الحزبية هي بلا شك ضخمة في عصرنا، ومهددة بالإختفاء لتترك مجالا لأشكال الحياة التي هي أكثر مرونة، أكثر انسجاما وأكثر إنسانية". بعد وفاته، تحولت شركة أوليفيتي الى الإلكترونيات، وإنتاج الآلات الحاسبة، وكانت من أول مصنعي أجهزة الكمبيوتر الشخصية في العالم.&

في العام 1971 تم الكشف عن واحدة من أكثر المنشآت غرابة في المدينة، وهي عبارة عن منطقة سكنية اشتهرت باسم "تالبونيا"، ولقد بنيت بالكامل تحت مرتفع، وتم كشف جانب واحد منها، يطل علي سلسلة من الجبال الزجاجية، كما افتتح مجمع لا سيرا أيضًا، واحد من عدد قليل من منشآت أوليفيتي في وسط المدينة، وهو مركز ثقافي هائل، يحتوي على قاعة وسينما وفنادق ومطاعم. بني من اللونين الرمادي والأصفر ويشبه الى حد كبير الآلة الكاتبة.

&

.. إلى الإتصالات

بدأت كاديغيا بيريني العمل في أوليفيتي في العام 1982، في الدائرة التي أنتجت أدلة المستخدم والوثائق الأخرى لمنتجات الشركة. "كانت هذه سنوات اٌزدهار للشركة" تقول بيريني، وتضيف: "لقد كانت المدينة ممتلئة، لم يكن هناك غرفة فارغة للتخزين".

عاشت بيريني في حي بيلافيستا، التي بناها أوليفيتي بين عامي 1960 و 1970. تعود بالذاكرة الى تلك الأيام وتقول: "بالفعل شيء لا يصدق، كيف كانت تلك البلدان وكيف أصبحت بعدما عمل اوليفيتي على تطويرها، كانت مباني ضخمة ومتراصة الى بعضها البعض، الآن أصبحت مباني صغيرة وفيها الكثير من المساحات الخضراء، اضافة الى وجود ملاعب رياضية، لقد كانت رائعة بالنسبة لنا".

في التسعينات تحولت شركة أوليفيتي الى العمل في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، وعلى مر السنين تم تقسيمها إلى أجزاء مختلفة، ولها فروع &تم بيعها لمستثمرين جدد، وبالتالي فقد الآلاف وظائفهم في مصانع الشركة.

اليوم لا يخلو مكان في إيفريه من وجود لوحة مكتوب عليها "للبيع"، معظم المباني فارغة، بما في ذلك مجمع لاسيرا، وأصبحت أوليفيتي جزءا صغيرا من مجموعة تيليكوم إيطاليا، اضافة الى أنها تبيع أقراص وخدمات تكنولوجيا المعلومات.

وفي العام 2014، أعلنت الشركة أن إيراداتها تقل عن 230،000،000 يورو، ولديها 582 موظفًا فقط، وفي الآونة الأخيرة، تناولت الأخبار الإيطالية قضية تورط أكثر من 10 مدراء من شركة اوليفيتي في جرائم قتل موظفين سابقين، وتم تحويلهم الى القضاء (القضية مرتبطة باستخدام الاسبستوس في مصانع الشركة ولا&تزال مستمرة حتى الآن).

تقول بيريني: "لم تكن المدينة قادرة على التعافي من التراجع الذي لحق بها بعد أوليفيتي، الآن وبعد 20 عامًا من اقفال المصانع، لم يحصل أي تعديل على المدينة".

&

قرية ريفية صغيرة

"إن ايفرية المدينة الصغيرة التي أصبحت مع اوليفيتي مركزا ينبض بالتطور الصناعي، الآن عادت مدينة ريفية صغيرة"، يقول انطونيو بيرازا، الذي عمل لأوليفيتي في الثمانينات، ويتذكر إيفرية &أنه عالم متنوع جدا، ينبض بالحياة والنشاط الثقافي، مع زملائه القادمين، ليس فقط من كافة أرجاء ايطاليا، بل من جميع أنحاء العالم".

اليوم صنفت الأمم المتحدة مدينة إيفريه موقعا للتراث العالمي، وقد وصفت إيفرية بين عامي 1930 و 1960 &بأنها "مدينة صناعية فريدة من نوعها تقوم على النظام الاجتماعي والإنتاجي مستوحاة من طريقة عمل وأسلوب حياة يتناغم فيه الإنتاج الإقتصادي والإجتماعي".
&