في الحلقة الثالثة والأخيرة من الحوار مع الروائي والناقد السعودي معجب الزهراني، استمر في هجومه على المحتسبين، قائلًا إن هيئة الأمر بالمعروف تعمل ضد المجتمع المدني، لأنها تحولت إلى سلطة تتهم وتدين وتنفذ الحكم، وكأنها فوق القانون.

أنت قائل: كنّا من جيل يحسن العمل في وقت العمل، والفرح في وقت الفرح، جيل كان ميسرًا للانفتاح والعمل في كل مجال. وكانت المدرسة وطنية لأنها لم تكن مؤدلجة مالذي حلّ بهذه المدرسة؟

كان التعليم جيدًا حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وفي أثناء دراستي وجيلي لم نتعرض في مناهج الدين لقضية الولاء والبراء، أو لوجوب كراهية غير المسلمين أو غير السلفيين، أو لمقولات الجهاد. في جامعة الملك السعود، درسنا الثقافة الإسلامية، وما احتوى المنهج على مثل هذه القضايا، لكن... في لحظة من اللحظات، اشتغلت مجموعة من العناصر على تغيير التعليم ومناهجه في المملكة. كُتب كثيرٌ في هذا الموضوع من قبل. هناك جانب لا يقل أهمية: تجد الشباب يعمل في الورش والبقالات ومحلات الخضار والملابس والذهب، سواءً في القرية أم في المدينة، ولا يجد عيبًا في ذلك أو حرجًا. الآن، في نفس الشاب السعودي نوع من العزة. فقد يكون محتاجًا لأي دخل، ومع ذلك يأنف عن القيام بالأعمال الحرة النبيلة، ما يعني أن قيم التعلم والعمل تراجعت أو لم تؤتِ ثمارها. تشوّه منطق التنمية تشوهًا كبيرًا. فعوضًا عن توجيه الشباب كي يحسنوا التعلم والعمل والكسب، أصبحوا يُشحنون بأفكار وقيم خاطئة غريبة تمامًا عن أسلافهم الأقربين، وتيهان وجنون أن ننشغل بقضايا أفغانستان والشيشان وننسى رهاناتنا والتحديات في وطننا. فالمنطقي السوي هو أن يكون بيتي ومجتمعي ووطني هي همومي، وأترك للآخرين مسؤولياتهم.

 

الحلقة الأولى
في حوار خاص مع إيلاف 1/3
معجب الزهراني: مجتمعات الجزيرة العربية... عتيقة

 

وماذا عن الخطاب الديني؟

لماذا الغرق في الأخرويات؟ نجد أن قضايا عذاب القبر والبرزخ وعذاب النار وملذات الجنة سيطرت على هذا الخطاب، حتى لكأننا نعدّ أبناءنا للموت فحسب! خلقنا وهيّأنا لخلافته وعمارة الأرض، فلنحسن الظن في الخالق والخلق، وننشغل بما ينفعنا ويحقق مصالح الإنسان التي هي مقاصد الشريعة في كل زمان ومكان. لا أريد أن أظلم أحدًا. يكفي أن تتابع حسابات الوعاظ في موقع تويتر وستجد أن أغلبيتهم تنشر خطابات التواكل والتشدد والضلالات المعرفية... ومتابعوهم بالملايين! وحين يتعرض الإنسان العادي لمثل هذا الطرح، يفقد بسيط المنطق فيتحول من متابع مستقل إلى تابع قابل لأن يفعل أي شيء في حال يغريه به الشيخ الرمز.

أثر باريس

لباريس تأثير كبير في مقالاتك وكتاباتك، ما غيّرته باريس فيك؟ 

كان لجامعة الملك سعود وكلية التربية بشكل خاص دور أساس في تشكيل شخصيتي المعرفية والثقافية خصوصًا في السنوات الأخيرة من مرحلة البكالوريوس. ففي تلك المرحلة تحديدًا عرفت الجاحظ وابن حزم والغزالي وابن رشد وكتّابًا كبارًا، عربًا وعالميين. كنا نقرأ أعمالهم ونتابع إنجازاتهم. لا يصدق كثيرون اليوم أنه كان لدينا نشاط ثقافي – ترفيهي في نهاية الأسبوع، نشاهد فيلمًا سينمائيًا في سكننا ذاته، أو نشاهد عروضًا لفرق غنائية تتكون من زملائنا الطلاب، ولا أنسى أبدًا مجموعة من مكة المكرمة تتقن الغناء الحجازي وأخرى من حائل تقدم فنون السامري. أما أثر باريس وحديثي المتكرر عن أهميته فطبيعي ومنطقي. فرنسا هي أول بلد سافرت إليه. وقتها، كنت أظن أن الباحة جنة الأرض. وحين وصلنا هناك، لم نكن نشاهد الأرض لأن الخضرة تغطي كل شبر، بدءًا بمدرج المطار. في أول رحلة من باريس إلى رويان في الجنوب الغربي، كانت مشاهد الغابات والحقول والأنهار والبحيرات لا تنقطع حتى ليخالها شاب مثلي قطعة من الجنة التي كنّا نقرأ عنها في كتبنا. حينما تجاوزنا مشكلة اللغة، أدركنا أن الشعب الفرنسي ينشغل بالجانب الثقافي والفني بشكل منتظم منذ أكثر من ثلاثة قرون، وأن باريس "مدينة الأنوار" لأنها أسهمت بقسط وافر في ثقافة العالم الحديث وفنونه، ولا تزال منارة حضارية مشعة في عالم اليوم. فطبيعي إذًا أن يكون لها تأثير إيجابي في من يعيش فيها عشر سنوات. الشرط الوحيد هو أن تأتي هذه المدينة ومثيلاتها متحررًا من مشاعر التوجس والخوف، وستعطيك بقدر ما تنفتح عليها وتستكشف عوالمها. فالموقف الذهني يحدد استفادتك من أي رحلة تعلم، وهذا ما ينبغي على طلابنا أن يدركوه. نعم، هناك من يذهب داعية إلى فرنسا أو اليابان، وهذا من حقه لكن المؤكد أنه سيعود من دون أن يتأثر إيجابًا بأي شيء ثقافي أو جمالي، والسبب توهمه بأنه يمتلك كل شيء صحيح ومهم وجميل قبل أن يرحل!. 

 

الحلقة الثانية
في حوار خاص مع إيلاف 2/3
معجب الزهراني: لا تعتادوا ثقافة القبح!

 

في العام الماضي، خضت تحربة مع المحتسبين في أثناء ندوتك في معرض الكتاب. وكثرت حوادث رجال هيئة الأمر بالمعروف والمحتسبين، وسبق أن قلت إن الهيئة تشتغل ضد المجتمع. لماذا؟

هذا الجهاز وُجد في مرحلة أولية من مراحل تشكل الدولة. كان له دور تاريخي في ضبط جماعات قبلية لم تتشكل قط في مجتمع وطني، ولم يكن بينها تواصل وتفاعل مادي أو رمزي. فالملك عبدالعزيز أنجز مشروعًا لم يكن يتصوره أحد قبل توحيد المملكة. لا شك في أننا محظوظون كذلك بالعلم الحديث واكتشاف البترول ونشوء أرامكو، فهذه كلها إبدالات تاريخية كبرى دعمت وجود الدولة وسمحت بتدشين مشروعات تنموية عملاقة في كل مجال. حينما أقول إن الهيئة تعمل ضد المجتمع المدني أعني أن هذا الجهاز تحول في مرحلة الثمانينيات إلى سلطة تمكنه من أن يتهم ويدين وينفذ الحكم في الوقت والمكان نفسه، كأنه فوق القانون! الأسوأ هو أن أفراده يطاردون الناس في الطرق والأسواق لأسباب واهنة وقضايا خلافية، ما جعل فئات كثيرة من المجتمع، خصوصًا فئة الشباب، تنفر منه وتتحين أقرب فرصة لهجرة تشبه الهروب الجماعي. هذا كله يُنتج أمورًا لا تخدم أحدًا، بعضها في غاية الخطورة بحسب رأيي. إن الترصد والمتابعة والقمع الذي تباشره الهيئة لا يبني أي علاقة انتماء جدية بين الإنسان ومدينته أو وطنه. هذا يُعيق الحراك الاجتماعي الطبيعي الذي تريده المجتمعات البشرية، حيث يختلف كل جيل في فكره وذوقه وسلوكه عن الجيل السابق. وهكذا تتراكم الثقافة بكل مكوناتها وتتطور. 

ما هو المطعن الأول برأيك؟

من غير المنطقي أن أجبر سكان مدن كبيرة مثل جدة أو الدمام أو الطائف على أن يعيشوا ويلبسوا كسكان قرية صغيرة أو بادية منعزلة، فهذا التنميط غير ممكن والإصرار عليه هو نوع من العبث، بل إن ممارسات الهيئة تولد النفور المعلن أو المبطن من شيء اسمه مجتمع ودولة، لأن الإنسان يرفض بطبيعته القمع وينشد المزيد من الحريات التي تحقق له معاني كرامته. لن أتعرض لمحاربة الهيئة لكل الأنشطة الترفيهية الفنية التي يحتاجها كل مجتمع سوي كما أشرت. وفي كل الأحوال، ما أرجوه وما يرجوه غيري الآن هو أن تعود الهيئة إلى ما كانت عليه قديمًا، ليباشر أفرادها إرشاد الناس ونصحهم وتوجيههم بالتي هي أحسن وأجدى، من دون حاجة إلى عصا أو إلى رجل أمن.

فضل غازي القصيبي

نجدك تمدح غازي القصيبي في شعره ورواياته وعمله في الوزارات، وأنت المشرف على كرسيه للدراسات الثقافية بجامعة اليمامة. ما سبب اختيارك واحتفائك الدائم به؟

سأقول لك ما قاله القصيبي عن نفسه ذات يوم: "أنا شاعر متوسط، وروائي متوسط، ومفكر متوسط، لكن حينما تجمع هذه القيم الوسطى ستصل إلى غازي القصيبي الإستثناء، أو الرجل الكبير مبدعًا ومواطنًا ومسؤولًا". حين ظهرت رواية "شقة الحرية" ثم رواية "العصفورية"، أكبرت في هذا الرجل أنه فتح الباب واسعًا أمام الشباب، وكأن لسان حاله يقول: فعلتها وأنا شخصية رسمية معتبرة فغامروا وعبّروا عن أنفسكم وعن تجاربكم وعن هواجسكم وأحلامكم بكل جرأة وحرية. نعم، لغازي القصيبي الفضل الكبير في فتح بوابة الرواية الجديدة في المملكة العربية السعودية أمام الجميع، وله مع ذلك وقبله دور كبير في تخيل وتحقيق مشاريع تنموية عملاقة كالجبيل وينبع وسابك والكهرباء. 

وليقيني أنه أنموذج بارز للمواطن الوفي والمسؤول الجاد النزيه والمثقف الجريء، كنت غاية في السعادة باقتراح إنشاء كرسي تنموي – ثقافي يحمل اسمه، ولعله أهم انجاز قمت به بعد التقاعد، وأملي أن يظل القصيبي وأمثاله قدوة للشباب، لا أولئك الوعاظ المتشددون الذين حاربوه وحاولوا تشويه صورته بكل الوسائل.