ذهاب المانيا نحو مقاضاة الكوميدي يان بومرمان لم يسلط الضوء على حساسية اردوغان تجاه النقد وحدود صلابة المستشارة فحسب، بل هزت الدولة برمتها وتحولت إلى قضية رأي عام، لا سيّما لجهة فتح السجال حول الحرية وحدودها.

برلين: أعلنت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل أن حكومتها استجابت لطلب تركيا مقاضاة الكوميدي الالماني يان بومرمان، الذي ألقى قصيدة هجا فيها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. &

في هذه الأثناء اختفى بومرمان وأُلغي برنامجه التلفزيوني وبرنامجه الاذاعي، وهو يرفض الادلاء بتصريحات أو الرد على الهاتف وسكت صوته على تويتر بعد أن كان عاليًا بصورة استثنائية، واعرب اصدقاء اتصلوا به خلال الايام القليلة الماضية عن القلق من انه قد لا يتحمل الضغط النفسي الواقع عليه.&

قبل فضيحة القصيدة الهجائية كان بومرمان كوميديًا له حضور خاص في الاعلام الالماني، ولكن الجميع اصبحوا يعرفونه اليوم، وكشفت القضية التي اثارها في المانيا حدود السلطة التي تتمتع بها ميركل، واللامعقول الذي يمكن ان يحدث في تطبيق القانون الالماني. فهو يمنع اهانة ممثلي الدول الاخرى ولكن المادة التي تنص على ذلك لا تُطبق إلا بموافقة الحكومة الفيدرالية، وبالتالي إذا كانت نية بومرمان ان يبين قوة الفن الساخر فانه نجح في ذلك الى حدود بعيدة.&

وجاءت موافقة ميركل على مقاضاة الكوميدي على الضد من نصيحة وزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير ووزير العدل هايكو ماز اللذين ينتميان الى الحزب الديمقراطي الاجتماعي شريك ميركل في الحكومة الائتلافية. ولكن ميركل في الوقت الذي وافقت على مقاضاة بومرمان اشارت الى نيتها في إلغاء القانون الذي سيُقاضى بموجبه قبل نهاية الدورة التشريعية الحالية للبرلمان. كما اعربت المستشارة عن قلقها على وضع الصحافة في تركيا. واضافت ان حكومتها ستضمن حرية التعبير في المانيا، وأكدت استقلال القضاء.&

حرية التعبير

باختصار كانت المستشارة الالمانية تمارس لعبة توازن سياسي صعبة محاولة إرضاء اردوغان وفي الوقت نفسه تهدئة الأصوات التي اتهمتها بالتضحية بالقيم الاوروبية، وخاصة حرية التعبير، من أجل تأمين اتفاق مع تركيا يهدف الى الحد من تدفق اللاجئين.&

إلى ذلك، فقد تضمنت قصيدة بومرمان، التي يُلاحق عليها قانونيا الآن، إشارات الى "قمع الأقليات" في تركيا، و"ركل الاكراد وضرب المسيحيين". وتسببت سخريته وقرار ميركل السماح بمقاضاته في انقسام المانيا الى معسكرين، معسكر يعتبره فنانا ساخرا لا يهادن ولا يجامل احدا، ومعسكر لا يستطيع ان يهضم الطبيعة المهينة لأبيات القصيدة. ويتساءل انصار هذا المعسكر إن كانت حرية بومرمان تستحق الدفاع عنها لاستخلاص الفن من الاهانة. &

ولكن "الاستفزازي الحقيقي هو اردوغان نفسه"، بحسب مجلة شبيغل، مشيرة الى ان الذين ينتقدون اردوغان "يُتهمون بالارهاب والخيانة والعمالة لقوى اجنبية". وفي بلد غالبية سكانه أُميون سياسيا ويتلقون معلوماتهم من التلفزيون المؤيد للحكومة، فإن غالبية الاتراك يصدقون الرواية الرسمية السائدة عن وجود عالم شرير يحاول تحجيم تركيا، وفي هذه الأجواء يمكن حتى ملاحقة تلميذ صغير لنشره مادة على "فايسبوك"، كما تقول مجلة شبيغل. &

ويبدو ان الالمان لا يعرفون كيف يتعاطون مع القضية. فان بومرمان اطلق سجالا حول مسألة كان يُعتقد انها حُسمت منذ زمن طويل، وهي مسألة الحرية وحدودها. وما إذا كان بومرمان حقا اراد ان يهين اردوغان بهجائه فان هذه لم تعد هي المسألة. والأرجح انه اراد ان يبلغ مستوى أعلى من السجال الفكاهي، لا يكون تعليقا ولا احتجاجا. &ومثل سائر الفنانين فان تفسير عمله ليس شأنه هو بل شأن الجمهور، ولا يمكن السؤال قبل تقديم العمل إن كان في حدود المسموح أو انه مساهمة بناءة في النقاش العام. ولكن ما هو مؤكد ان الكوميدي الساخر كان الفتيل الذي فجر الفضيحة وان آخرين يقومون بتصعيدها.&

توقيت خاطئ

بالنسبة إلى المستشارة فإن فضيحة بومرمان جاءت في وقت غير مناسب، فقد أتت مع بداية تنفيذ الاتفاق مع إردوغان بشأن منع اللاجئين من دخول اليونان عن طريق تركيا. إذ اعلن دونالد توسك ان اعداد اللاجئين القادمين الى اليونان من تركيا عبر بحر ايجة انخفض بدرجة كبيرة. واعترف مسؤولون كبار في المفوضية الاوروبية لا يؤيدون الاتفاق بـأن تركيا التزمت جزئيًا على الأقل بما عليها من تعهدات بموجب الاتفاق.&

ولكن هناك مشاكل. فمنظمة العفو الدولية قالت في تقرير جديد إن تركيا تعيد نحو 100 سوري يوميًا الى سوريا. وتساءل رئيس كتلة الليبراليين والديمقراطيين في البرلمان الاوروبي غاي فيرهوفشتادت قائلًا: "هل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحًا هل نستطيع الاستمرار في تنفيذ اتفاق ضد القانون الدولي وضد التزاماتنا؟"&

وأشار فيرهوفشتادت الى اردوغان بالقول: "لقد سلمناه مفاتيح بوابات اوروبا والآن نخاطر بتسليمه غرف الأخبار الاوروبية ايضا ليقرر ويسيطر على اعلامنا"، مؤكدًا أن قصيدة بومرمان ليست من نوع الفكاهة التي يستسغيها "ولكن في مجتمع حر يجب ان تكون مثل هذه القصائد الساخرة جائزة. فهذا هو الثمن الذي ندفعه مقابل حريتنا، وندفعه عن طيب خاطر من أجل حريتنا".&
&