لم يبقَ في حلب سوى الذكريات، المدينة ساوت الأرض أو تكاد، وأهلها يبحثون عن الحياة بين الموت والركام.

حلب: ألقت حلا نظرة فاحصة على وجهي، وهي تشعر بحرارة العرق المتصبب من جبيني، عقب مجزرة حي بستان القصر يوم أمس، فعلت ذلك في لحظة مزق فيها وميض قادم من الأفق ظلمة تلك الليلة التي غاب عنها القمر.

دوي البراميل والغارات، التي لم تتوقف قوات الأسد وبوتين عن إطلاقها خلال الأسبوع الماضي على المدينة، كان يتردد في أذني بشكل مستمر. من كانوا خلال القصف بتلك المدينة النائمة في أحضان شمالي سوريا، رأوا وما زالوا يرون جحيمًا من الحمم والبراميل ينهال عليهم. مئات منهم قتلوا، وعشرات المئات منهم من أصيب، ومنهم من فرّ بجلده هو وأهله وسط مسالك الأحياء المرصودة من قناصة الأسد.

انقطع حبل استرجاع هذه الأحداث، حينما شرع أحمد عزيز الصبي ذو العشرة أشهر في البكاء بصوت مرتفع بعد مجزرة حي بستان القصر، حيث بقي الصبي تحت الركام لأكثر من عشرين ساعة، ليتم بعدها إخراجه من قبل عناصر الدفاع المدني تحت الأنقاض هو وعائلته التي قتلت ليبقى وحيداً يصرخ دون مجيب.

ركام وقتلى

سيل الصور والفيديوهات الخارجة من مدينة حلب تدمي القلوب، حيث لم يبقَ لهذه المدينة سوى الذكريات الممزوجة بالألم والحسرة على ماضٍ اندثر على وقع البنادق والصواريخ والبراميل، التي دمرت المدينة بشكل شبه كامل.

يقف الشاب محمد جواد أمام ركام منزله في حي الكلاسة ويروي لـ"إيلاف" مشاهد الموت والدمار، التي باتت حكاية السوريين في مدينة حلب، فيقول: "براميل الحقد الأسدي غيّرت المدينة اليوم بشكل نهائي من حلب الشهباء، إلى حلب المنكوبة، بل إلى أخطر مدينة في العالم، ثم غدت المدينة في هذه الأيام تفتقر إلى أمتار قماش تستخدمها كأكفان لموتاها بعد أن كانت يومًا طريق الحرير الذي نقل الحياة والحضارة من الصين إلى العالم القديم. حلب الآن في منتصف طريق الموت".

الحملة الأخيرة الممنهجة التي تطال مدينة حلب لا تزال مستمرة من خلال القصف المركز، الذي يهدف الى تهجير السكان وشن عمليات عسكرية للسيطرة على المدينة، هذا ما يؤكده القائد الميداني في غرفة عمليات حلب يوسف سليم، ويؤكد "أن النصر حليف الثوار"، ويقول: "حلب جذورها ضاربة في التاريخ، وملكيتها ليست للأسد وإنما للسوريين، مهما قتلوا ومهما ذبحوا، قدرها أن ترجع ذات يوم إلى ملاّكها الأصليين. ولا بد للأسد وجيشه أن يغادروها، مهما طالت براميل حقدهم، ومهما تعاظمت ارتكاباتهم".

ثمن باهظ

أصبحت اليوم مدينة حلب مهددة بأن تصبح خارج الزمان، هكذا يتكلم الحاضر عن نفسه، والمستقبل بدأت ترتسم حوله علامات استفهام، والماضي على وشك أن يصبح ناقصًا، فقد وصل الدمار لكل الأحياء والأسواق والنفائس التاريخية. 

ويدفع سكان مدينة حلب كما سوريا ثمنًا باهظاً لنيل حريتهم، حيث تتعرض المدينة لقصف متواصل منذ عشرة أيام سجلت خلالها مقتل سوري من مدينة حلب كل 25 دقيقة، حيث وثق ناشطون ومؤسسات محلية مختصة بتوثيق القتلى والانتهاكات 350 قتيلاً بينهم 43 سيدة و40 طفلاً و394 جريحا، موثقين بالاسم و260 غارة جوية على الأحياء السكنية و 65 برميلاً متفجراً على المدنيين، و18 صاروخ أرض أرض استهدفت المشافي والمدارس والأسواق والمباني السكنية.

إضافة للضحايا الذين يقتلون كل يوم، فإن سبعة مواقع مهمة تمثل روح المدينة القديمة تعرضت لتدمير كامل أو جزئي، أهمها الجامع الأموي الذي احترق قسم كبير من فنائه الداخلي في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، ودُمر الكثير من أجزائه أيضًا وانهارت مئذنته في نيسان/أبريل 2013، بحسب الأستاذ نايف قدري الخبير الأثري.

 

ويتابع قدري: " أما البازار (سوق المدينة الأثري) الذي يعود تاريخ تأسيسه للعهد الهلنستي، بينما هويته وشخصيته المعمارية قبل دماره فهي بيزنطية، وبلغ طوله مع تفرعاته حوالى 12 كيلومترًا، وقد أتى حريق هائل على قسم كبير منه، مما أدى إلى انهيار نحو 60% منه".

أما المساجد والجوامع القديمة فوصل ضررها لما يقارب 35 منها، بينها مأذنة جامع "المهمندار"، التي تعد فريدة من نوعها في سوريا وتعود للقرن الـ13، وتظهر التأثر بفن العمارة والزخرفة في سمرقند، كما حصد الدمار ما يقارب 50% من البيوت القديمة التي يبلغ عددها حوالى 6000 ويعود تاريخ بنائها إلى ما بين القرنين 14 و18. واقتصر الدمار في قلعة حلب على مدخلها وبابها وسورها الذي يعود للعهد الأيوبي، ولحق الضرر بها خاصة ومع استخدام قوات الأسد القلعة ثكنة عسكرية لقصف حلب.

طوق النجاة

في حي بستان القصر نافذة كبيرة تطل على حلب القديمة والقصرالبلدي، هذه النافذة كانت مرآة تعكس صورة الحرب بأبشع اوجهها الإنسانية، تنقل لك كيف تموت المدن وتنعدم الحياة دون ان تضطر لتقدم لك برهانًا واحداً، تنقل لك أيضا طوق نجاة لمستقبل لربما يبدو مجهولاً لولا تلك الصور التي نراها كل يوم:

بساق واحدة.. نور شاب في عقده الثاني يعمل مسعفاً في الدفاع المدني بحلب٬ ينقذ الناجين ويخرج الضحايا من تحت الأنقاض مع رفاقه.

بهاء.. ناشط يحصل على جائزة في التصوير ينشط في حلب أخطر مدينة في العالم ويوثق بشكل يومي القصف والتدمير.

أبو محمد.. ثمانيني عاصر عدة محتلين وبقي صامدًا في حي الكلاسة أفقر أحياء مدينة حلب إلى أن سقط بالقصف الأخير على الحي.

مجد.. من جندي منشق عن قوات الأسد إلى أقوى من يرمي سلاحاً مضاداً للدبابات في الشمال السوري، يرابط على الجبهات ضد قوات الأسد والميليشيات المساندة لها.

طبيب سوري مسن ترك أوروبا وعاد لبلاده وبات الوحيد المختص في جراحة الأوعية الدموية، وهو يتنقل بين المشافي الميدانية لعلاج المصابين.

أم محمد.. من مدينة حلب، فقدت زوجها واثنين من أبنائها، وأخاها، وأختها وأبناء أختها، وباتت تعيش في مقبرة ترفض الخروج من مدينتها رغم القصف والدمار.

محمد عبد الرحمن.. مشرف على مقبرة الشهداء في مدينة حلب، دفن بيديه معظم ضحايا المقبره، بينهم ابن له وأكثر من سبعين من أقربائه.

أحمد.. شاب سوري يعمل منذ فترة وجيزة مع مجموعة من الناشطين على سلسلة من الأفلام بهدف إعادة تعريف العالم بالثورة السورية.

أبو قصي.. يعمل في خياطة الأحذية وينتظر على مدار الساعة خبر دخول طائرات النظام إلى أجواء المدينة حتى ينطلق بسيارته الصغيرة لتنبيه الأهالي كي ينزلوا إلى الملاجئ.

روان ومجموعة من الفتيات.. ينشئن منتدى يُعنى بشؤون المرأة والطفل، في حلب، ويعمل المنتدى الوليد على مساعدة النساء السوريات للاعتماد على أنفسهن لتأمين متطلباتهن.

هذه حلب اليوم، رغم دمارها والموت المحدق بها في كل دقيقة، إلا أن الحكايا التي تشاهدها بشكل يومي تقول إن حلب ستبقى تضج بالحياة رغم كل هذا الموت.