1

قبل انضمامي إلى أسرة "إيلاف"، نشرتُ بعض النصوص والقصائد فيها.. كانت في عامها الأول... وحين عرضَ علي العمل فيها، قبلت بكل سرور. فبدأ عملي في مارس 2002، وفي الديسك أي في قسم النشر وجبة الفجر من الساعة الثانية غرينتش وحتى التاسعة صباحا. وقد اكتشفتُ، من خلال هذا العمل الغسقي، أن لإيلاف ثلاث مزايا جوهرية لا وجود لها في فجر الشبكة العنكبوتية، الأولى: أنها مولودة على نحو متميّز عن الصحف العربية التي كانت، آنذاك، في مجملها عبارة عن توأم للصحف المطبوعة؛ أي صحف عربية كانت متوافرة الكترونياً وليست صحفاً إلكترونية. بينما إيلاف قد صممت خصيصاً للإنترنت بوسائط نشر متعددة، لعرض النصوص والصور والاصوات والافلام الوثائقية، وعبر نظام يوفّر ربط غرف أخبار وتحرير متعددة تابعة لإيلاف، تنتشر في مناطق مختلفة، كبيروت ولندن وباريس، والمغرب ومناطق أخرى، بشبكة إنترنت تحريرية واحدة تسمح للمحررين بالعمل سوية وكأنهم في قاعة واحدة، والتلاعب بحرية مع الأخبار والصور والأفلام. ويتيح نظام التحرير هذا عرض الأخبار فور حدوثها وتغييرها بشكل مستمر وبسهولة تامة من قبل المحررين. وبهذا المعنى هي فعلا أول يومية الكترونية.&

الميزة الثانية هي أن "إيلاف" برهنت خلال العامين الأولين على أنها منبر الاستقلالية بامتياز؛ ومرآة التفكير الحر، بل الصحيفة الخارجة على الرأي المتسلط. ذلك أن "ايلاف مشروع لم يُنشأ بقرار رسمي، ولن يغلق بقرار رسمي. بل هو مشروع مستقل الارادة والقرار، واستمراره رهن باستمرارية هذه الاستقلالية"، كما كتب الناشر عثمان العمير في افتتاحية العدد الأول. هذه الاستقلالية التي لم تتميز بها أية صحيفة ورقية أو رقمية، جعلت من "إيلاف" وكأنها مصنع لرأي عام حر في مجال عام مكبّل بالرأي الواحد. فهي اعطت القراء مساحة واسعة ليعلقوا بحرية على ما يقرؤون فيها؛ فباتت التعليقات (أحيانا تصل إلى 300 تعليق على المقال الواحد) نوعا من التفاعل الحي بين القارئ والمؤلف، كانت تفتقر إليه الصحافة الورقية؛ تفاعل يمكن للقراء والكتّاب معا إدراك بعض أسباب تخلف الذهنية العربية وفي الوقت نفسه سُبُل تطورها، وكيفية معالجة بعض القضايا الساخنة وأحداث فاترة. وها أنت أمام كل أنماط الكتابة والتفكير؛ بل تجد نفسك أمام انفكاك لغوي يوحي للقارئ انه انتقل فعلا من أجواء الصحيفة الورقية التي باتت في نظره تعبيرا تقليديا، إلى صلبِ حركيّة حياتِه اليومية المعاصرة حيث الكلام تنبع قوته أحيانا من الغلط النحوي وفوضى التركيب، وغضب السجال، ومن الكتابة المشحونة بالانفعال والعواطف. حتى الكاتب نفسه طفق يشعر بأنه لا ينشر فحسب، بل يتحادث أيضاً مع (أشباحه) قرائه؛ ليس معزولا، وإنما في صلب معمعان ما يكتب. بعض الكتاب أخبروني أنهم يفضلون النشر في "إيلاف" مجانا على أن ينشروا في جريدة تدفع لهم مكافأة!&

أما الميزة الثالثة، فإنها تكمن في التصميم ذي النظرة الكلية Gestalt (الجشطالتية) حيث تترابط فيها أجزاء مشهد متنوّع كلا واحدا.. على عكس المجموع، الذي تقشعر به مئات المواقع، المنفصل الأجزاء الذي يبدو عشوائيا متلاصق العناصر بحيث تضطرب العين في معاينته في آن واحد. ففي تصميم إيلاف ثمة كلّية يتنقل فيها القارئ كسمكة تسبح في مياه عذبة بين المسموح والممنوع؛ حميمية بين هذا القسم وذاك، واحد يكمّل الآخر: مقالة تكتمل فكرتها من خلال ابتسامة إحدى نساء إيلاف، وبالتالي يُصنَع القرار روحا وجسدا؛ القصيدة نسمع إيقاعها من خلال أقدام الرياضيين، الخبر من خلال ما يثير من سرد سينمائي.... هذه هي "إيلاف" إعلام حلمي أكثر واقعية من الواقع نفسه.

2
في الحقيقة أن لـ"إيلاف" الخارجة على طاعة بيت الإعلام العربي، دور أساسي في التحريض على طيف من الجدل الفكري، خصوصا التيار المسمّى"الليبراليون العرب الجدد"، فلولا "إيلاف"، لما كان لهم حضور وتأثير. ألم يكتب شيخ الليبراليين العرب الدكتور الراحل شاكر النابلسي، في الذكرى الثالثة لتأسيس "إيلاف" بأنها "هي التي أطلقت المثقف العربي الكوني..."! وفي نفس المقال ألم يؤكد بأن "إيلاف" قد "فتحت صفحاتها لكافة الكتّاب الليبراليين الجدد <المغضوب عليهم ولا الضالين> من قبل الصحافة الرسمية وشبه الرسمية العربية. ولعبت (إيلاف) دور <دار الايتام> التي احتضنت كل كاتب أو مفكر أو فكر مشرّد غير مُعترف بأبوته الشرعية في العالم العربي. وكانت <دار الايتام> هذه تضم من تطلق عليهم الصحافة العربية الرسمية وشبه الرسمية <اللقطاء> أو <أولاد الحرام> أو <أولاد الزنا> أو <المثقفين غير الشرعيين>.. الخ".

3
كانت صفحة الثقافة، في البدء، مقتضبة تعتمد على النقل من مصادر أخرى أكثر مما على مواد حصرية...، ولم يكن هناك قسم خاص بالرأي، وإنما باب "جريدة الجرائد" الذي ننشر فيه ما يكتبه بعض كتاب الأعمدة في الجرائد اليومية. فأنيطت إلي مهمة تطوير القسم الثقافي والاشراف على مقالات الرأي. رأيت أن القسم الثقافي يجب أن يكون عنوانه "ثقافات" وليس "ثقافة"... فليست هناك ثقافة واحدة بل متعددة، وليس هناك جنس أدبي أو فني واحد وإنما متشعب، ولكلٍّ خصوصيته... والتنوّع علامة جوهرية في قسم ثقافي، رقمي خصوصا. فأخذت تصل مواد هائلة من كتاب وشعراء، وأجرينا استفتاءات عميقة في مسائل جدية لم تطرح آنذاك لا في الكتب ولا في الصحافة المطبوعة كـ: ماذا حل بالفلسفة في العالم العربي، ما جدوى الشعراء في زمن البأساء والضراء؟ عندما كان للثقافة العربية مكان – مركز، كيف يترجم الشاعرُ شاعراً؟ الخ. وإعطاء مجال للشعر المترجم عن اللغات العالمية، والتعريف بقصيدة النثر الأوروبية، ولكتابات نقدية أوروبية وأميركية، ولعشرات الحوارات المعمقة والجدية مع مثقفين وشعراء ومفكرين عربا وأجانب. "إيلاف" ثقافيا، هي أشبه بنافذة تطل على ما يفتقر إليه الداخل العربي: الحرية الفكرية.. إنها المرآة التي ينعكس على سطحها الثقافة الغائبة في الحياة العربية اليومية.


4
أما الرأي فهناك نقيضه، والخبر له صداه وتحليله، واعتبارا من هنا، خصصنا قسماً جديداً عنوانه "أصداء" لمقالات الرأي ولفتح الباب أمام سجال صحي، أخذ يصعد بعد سقوط نظام صدام، بل أن يكون هذا القسم مرآة حرية الكاتب في تناول ما يراه موضوع الساعة، وبنبرته الحرة التي لا تجد متنفسا لها في الإعلام الورقي. وهكذا أصبحت "أصداء" (التي تطورت فيما بعد إلى "كتاب إيلاف" واليوم "فضاء الرأي")، الزاوية الأكثر زيارة. فبات كل قارئ يجد مصادر عديدة لاهتمامه في وجهات النظر المختلفة... بل راح عدد كبير من القراء يتباهون بأنهم من قراء إيلاف؛ بأنهم من النخبة. لقد نشرت إيلاف في قسم "الرأي" ما يقارب خمسين ألف مقال، خلال خمس عشرة سنة. وكتّاب إيلاف الذين وصل عددهم أكثر من مئة كاتب، تمتعوا لأول مرة في حياتهم، بهذه الحرية حتى الثمالة (حد أن "إيلاف" غالبا ما تُحجب بسببهم)؛ راح كل كاتب يدلو بدلوه وفي الموضوع الذي هو يختاره، لفتح ثغرة في كواليس المعلومة. ولم تطلب إيلاف، إلى اليوم، من أي واحد منهم أنْ يكتب في موضوع معين... بحيث بات معروفا، كما كتب خالص جلبي، إن الكاتب الذي "أعيته الكتابة في منبر، أو حيل بينه وبين ما يشتهي من طرح الأفكار، التجأ إلى قلعة إيلاف، فأفرغ كامل سلاحه وعتاده ونشر تقنياته وطروحاته" دون أية رقابة. فما ذاك اللون الأزرق الليلي المريح للعين الذي أطلقته إيلاف إطارا لصفحتها الأولى سوى صفة الحرية... بل هو لونٌ أختاره الناشر اطارا للصفحة الأولى، كعلامة على إيمان "إيلاف" بضرورة فتح مجال حر تتصارع فيه الأفكار تصارع الأحداث المخصبة لواقع جديد. وليس غريبا أن العرب كانت تسمي كلَّ عدو نبيلٍ "العدو الأزرق" احتراما لمنازلته بأسلحة فكرية نظيفة.&

5
إيلاف نهر إعلاميّ بلا عودة يصعد أعالي الأحداثِ؛ جريدةٌ رقميّة "قراءتها"، محاكاة لعبارة هيغل، "باتت أشبه بصلاة الصبح" للإنسان "الرقمي". ورغم كل ما جاءت به من جديد، فإن "إيلاف" تجد نفسها دوما تولد للمرة الأولى... تنفض عنها غبار الروتينية والعادة، ترمي نفسها في شبكة التجريب والتجديد...

حتى يصبح الإعلامُ نفسُه فطورا شهيا لآلاف القراء.

إلى يوم آخر
باريس 21 مايو 2016