إيلاف من أصيلة: عرفت الجلسة الختامية لندوة "الحكامة أو الحوكمة ومنظمات المجتمع المدني"، المنظمة في إطار فعاليات الدورة الثامنة والثلاثين لمنتدى أصيلة الدولي، نقاشات واسعة حول مدى تأثير المجتمع المدني على الحكومات العربية والغربية.

واعتبر أغلب المتحدثين أن منظمات المجتمع المدني تجاوزت الحكومات والأحزاب السياسية في استقطاب وكسب ثقة المواطنين، لأنها لامست مشاكلهم وحاولت رغم ضعف مواردها المالية حل عدد من الاشكالات التي يتخبط فيها المجتمع.

العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني

وقالت النائبة المصرية أنيسة حسونة إن تعزيز العلاقة بين المجتمع المدني والبرلمان، يعني خلق مساحة جديدة لفكرة المشاركة التي لم تعد تعني فقط حالة ولحظة المواطن للناخب، فالبرلمان تقول حسونة لم يعد مطمئنًا إلى ولايته التشريعية كتفويض من دون متابعة من طرف المجتمع وقواه المدنية.

وتحدثت حسونة عن إشكاليات التباعد المتواصل بين العالم السياسي وبين المجتمع والمواطنين، وقالت :"لا شك أنها خلقت الحاجة إلى أجوبة متعددة، يبقى التواصل المدني البرلماني، أحدها بامتياز".

وتساءلت حسونة عن الإطار العام للعلاقة الممكنة بين المجتمع المدني والبرلمان؟ وماذا تقدم التجارب المقارنة في هذا المجال؟.وزادت النائبة المصرية قائلة انه إذا كانت الخطاطة الأصلية للأنظمة التمثيلية لا تفترض أي دور ممكن لما يمكن أن نسميه الآن "المجتمع المدني"، حيث إن البرلمان، في هذه الخطاطة، يحتكر التمثيلية، فإن مسلسل "دمقرطة" الفكرة الليبرالية الأولى حول التمثيل والمشاركة، يبدو أنه قد ساعد على معالجة أسئلة طارئة حول تداعيات ما سمي بأزمة النظام التمثيلي، وقدرات هذا النظام على ضمان مشاركة فعالة للمواطن في العملية السياسية.

وقالت حسونة انه من الواضح" أن سؤال العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني، يبقى ضمن هذه الأسئلة الطارئة، التي لم يكن سقف تفكير آباء النظام التمثيلي يسمح بطرحها، غير أن هذا الاستنتاج لا يجب أن يذهب بنا بعيدًا، للتفكير في أن إسهام المجتمع المدني في العمل البرلماني بشكل من الأشكال، قد يكون من بين مطالب المدافعين عن الديمقراطية المباشرة، فالمؤكد أن هؤلاء كانوا، خلال النقاش المؤسس والمواكب للديمقراطية التمثيلية يحملون نفس الموقف السلبي والمبدئي من المؤسسات النيابية اتجاه باقي أنواع الوسائط المجتمعية الممكنة". 

وخلصت حسونة الى أن التفكير في العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني، يوجد أساساً داخل مسار الديمقراطية، وليس بالتأكيد داخل لحظة الليبرالية، لأجل ذلك يرتبط هذا التفكير بهاجس الديمقراطية التشاركية وديمقراطية الحوار والتداول.

أهمية المجتمع المدني

وتحدثت نزهة الصقلي، وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة المغربية سابقاً، عن أهمية المجتمع المدني في الحياة العامة، وقالت إن تخليق الحياة العامة أصبح من أكثر المفاهيم تداولاً في المغرب في الوقت الراهن، ولعل ذلك راجع - تقول الصقلي - إلى "الفساد الذي يعانيه المغرب في عدة مجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية". 
وأضافت الصقلي أنه أمام تعالي الأصوات الشعبية المطالبة بمحاربة الفساد الذي جاء في اطار ما يصطلح عليه بـ" الربيع العربي" الديمقراطي، والذي لا شك أن نسماته هبت على المغرب أيضًا، فكان لابد من تغيير يعيد المسار الديمقراطي المغربي للطريق الصحيح، فكان التغيير الذي أتى به دستور 2011 و الذي يعد أول دستور يتحدث عن المجتمع المدني ويعترف بدوره في ترسيخ قيم تخليق الحياة العامة عبر المراقبة والمشاركة والتقييم (الفصول 12,13,14 و 15).

وشددت الصقلي على ان دستور 2011 أرسى عدة مفاهيم قصد تعزيز آليات الحكامة الجيدة وتخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، من بينها مراقبة المال العام الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص ومحاربة الرشوة وعدم الافلات من العقاب وربط المسؤولية بالمحاسبة.

وبخصوص مراقبة الهيئات الجمعوية لعمل الدولة، بينت الصقلي أن الدستور المغربي الجديد جاء معبراً على ذلك من خلال وجوب مراقبة المجتمع المدني المهتم بقضايا الشأن العام للسياسات العمومية، "وتتم هذه المراقبة عن طريق تقديم عرائض للسلطات العمومية، أما على مستوى المشاركة في اتخاذ القرار فقد خول الدستور لهيئات المجتمع المدني المهتمة بقضايا الشأن العام والمنظمات غير الحكومية، المساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا تفعيلها وتقييمها وعلى ضرورة إحداث السلطات العمومية لهيئات للتشاور قصد تحقيق هذه المشاركة، أما على مستوى التقييم يلاحظ أن الدستور الجديد جاء بخاصية جديدة تتمثل في إمكانية المجتمع المدني تقييم السياسات العمومية المتبعة من طرف الحكومة وإبداء الرأي والاحتجاج عليها ان اقتضى الحال ذلك. 

وكشفت الصقلي أن الدستور المغربي رغم مرور أكثر من خمس سنوات على تطبيقه يلاحظ استمرار مجموعة من الاختلالات التي تشكل تحديات حقيقية أمام تطور المجتمع المدني في المغرب، ومن ثم القيام بأدواره كاملة في تحقيق التنمية المستدامة عبر آليات مختلفة، أهمها آليات تقييم السياسات العمومية.

 ودعت الصقلي الفاعلين في تدبير الشأن العام أن يعوا بأهمية تطوير آليات مشاركة المجتمع المدني في تدبير الحياة العامة عبر إعمال مجموعة من الآليات تتمثل خصوصاً في تكثيف البرامج المتنوعة المتعلقة بمراقبة السياسات العامة، خصوصًا بعد الدور الكبير الذي أناط الدستور الجديد لمنظمات المجتمع المدني القيام به، وذلك من خلال إعادة الاعتبار لدور المجتمع المدني في تخليق الحياة العامة والمشاركة في السياسات العمومية والمطالبة بإشراك المجتمع المدني في إعداد وتنفيذ السياسات العمومية مع ضرورة تطوير إمكانيات المجتمع المدني وتشجيعها على الخلق والإبداع أخير وليس اخراً.

ودعت الصقلي ايضًا المجالس المنتخبة الى إشراك منظمات المجتمع المدني في برامجها التنموية والثقافية والاقتصادية، تفعيلاً وتنزيلاً لمقتضيات الفصل 12 من الدستور المغربي الجديد من أجل ربح الرهانات الاستراتيجية المطروحة على بلادنا، واستكمالاً للبناء الديمقراطي للمجتمع المغربي.

الجزائر ونقمة البترول

من جانبه، قال سيد أحمد غزالي، رئيس الحكومة الجزائرية الاسبق، إن "نقمة البترول" ساهمت بشكل كبير في خمول المجتمع المدني في الجزائر وعدم استقطابه للطاقات البشرية الخلاقة.

 وعلى الرغم من ذلك، يقول غزالي انه توجد في الجزائر منظمات غير حكومية تمارس جميع أنواع الأنشطة التطوعية التي تنظمها الجماعة حول مصالح وقيم وأهداف مشتركة بحيث تشمل هذه الأنشطة المتنوعة الغاية التي ينخرط فيها المجتمع المدني من تقديم الخدمات أو دعم مجال محدد بذاته.

ورصد السياسي الجزائري أن تأسيس المنظمات غير الحكومية في الجزائر بالطريقة التقليدية تعوقها الكثير من العراقيل كالبيروقراطية وطول مدة منح الاعتماد وصعوبة الحصول على مقر اجتماعي لها، فضلاً عن تمييع أغلب المنظمات وتذويبها وجعلها لجانًا مساندة سياسية حينًا وفرق عمل مناسباتية حينًا آخر، الأمر الذي فرض توجه الكثير من الشباب إلى البديل السهل والسريع، وهو إنشاء منظمات مجتمع مدني إلكترونية تتخذ من المواقع المشهورة والمنتديات محطة لانطلاقها نحو خدمة الفكرة التي تأسست من أجلها.

وأضاف غزالي ان "المشاكل الكبيرة التي تواجه الشباب الجزائري لا تجد في مقابلها رعاية من طرف المنظمات المدنية التقليدية الموجودة" ، مستشهداً بتقارير صادرة عن الشبكة العربية للمنظمات الأهلية الكائن مقرها بالقاهرة، حيث أشارت إلى وجود نقص فادح في عدد المنظمات المدنية في الجزائر مقارنة بمعظم الدول العربية حيث لم يتجاوز ال40 منظمة سنة 2007 على المستوى الوطني مقارنةً مع النسبة الهائلة من الشباب الجزائري، حيث يمثل الشباب ما بين 15 و29 سنة فقط نسبة (32.8%) من إجمالي الشعب الجزائري.

 المجتمع المدني تجاوز الدولة

يرى محمد تاج الدين الحسيني المحلل السياسي المغربي، والقانون الدولي في جامعة محمد الخامس في الرباط، " أن المجتمع المدني في المغرب تحول إلى شريك أساسي في التسيير، حيث تجاوز وضعيته كمجرد قوة اقتراحية، وتحول إلى شريك، وهي الحلقة التي ظلت غائبة عن علاقة المجتمع المدني عندنا، بسلطة القرار، إذ ظل على الدوام متماهياً مع الدولة مترجماً لتوجهاتها من دون أن يرقى إلى مرتبة القوة الاقتراحية حتى، وهي الوضعية التي عرفت نوعاً من التململ مع العشرية الأخيرة" .

وأضاف الحسيني ان أحد أهم الأهداف التي انطوت عليها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها الملك محمد السادس، كانت من أجل تحرير المجتمع المدني بشكل من الأشكال من وضعية التبعية المطلقة، نحو وضعية الشريك إلى حد ما، ثم جاء الدستور الجديد لينص على مأسسة المجتمع المدني من خلق المجلس الأعلى للجمعيات والمجتمع المدني، مسجلاً وجود وزارة للمجتمع المدني للمرة الاولى، وهي مؤشرات دالة على المكانة التي أصبح يحتلها هذا المجتمع في معادلة التسيير التشاركي، خاصة مع القطيعة المعلنة بين الشباب والفعل السياسي، ما أهل الجمعيات إلى ملء الفراغ التنظيمي الذي تركته الأحزاب السياسية نتيجة إكراهات موضوعية وذاتية.

واشار الحسيني الى ان الجمعيات وإن اجتهدت ونجحت فهي ليست بديلاً للأحزاب، ولكنها يمكن أن تلعب دوراً في المصالحة بين المواطن والمؤسسة ما يمهد الطريق نحو المعالجة مع السياسة عمومًا.

وفي نفس السياق، قال الحسيني إن إشكالية الحكامة تطرح باعتبارها مقاربة نظرية لخلق ثقافة جديدة في التسيير القائم على مبادئ الشفافية والقرب والتشاركية، ومهما كانت هذه المبادئ مثالية في منطلقاتها، إلا أنها لن تبرح السياق النظري ما لم يتم إشراك المجتمع المدني في تنفيذها، باعتباره قناة التواصل الأساسية بين المؤسسة أي مؤسسة والمجتمع.

ويرى الحسيني أن التسيير التشاركي الذي هو عصب الحكامة، لا يعني أكثر من إشراك المجتمع المدني في كل المقاربات والاستراتيجيات خاصة منها ذات البعد التنموي، بمستوياته المتعددة، والإشراك بهذا المعنى يفيد القرب أولاً، والشفافية ثانيًا، ما يحقق هدفاً ضمنياً هو تحول المجتمع المدني نحو ممارسة نوع من الرقابة على المؤسسة العامة، ما يقلص من إمكانيات الفساد في أفق محاربته.

 وخلص الحسيني الى أن استثمار الإمكانات والطاقات الهائلة التي يزخر بها المجتمع المدني، إن على مستوى التأطير أو التنظيم أو الاقتراح، لهو وحده الكفيل بتحقيق وخلق ثقافة جديدة في التسيير جوهرها الشفافية واقتسام السلطة والمقاربة التشاركية بما هي آليات لتفعيل الحكامة الرشيدة.

تجربة المجتمع المدني في البحرين

تحدث علي عبد الله خليفة، مدير ادارة البحوث الثقافية بالديوان الملكي البحريني، عن تجربة البحرين في مجال العمل الجمعوي التي بدأت سنة 1970 بتأسيس منظمة "أسرة الأدباء والكتاب"، مشيرًا الى انه يمكن القول بأن المجتمع المدني البحريني هو الأقوى بين دول الخليج الست.

وأضاف الشاعر البحريني قائلاً، " في وقت بدأت فيه تجربة المجتمع المدني في دول الخليج تميل الى البطء، تُظهر لنا التجربة البحرينية عنفواناً وتفاعلاً وانخراطاً كبيراً من قبل الجمهور في الشأن العام.

 وأكد خليفة انه على الرغم من القصور في كثير من القضايا، فإن البحرين تبدو كمنارة بين دول الخليج سواء في مساحة الحريات العامة، أو في الحراك المجتمعي الناشط والصاخب الذي لم يتوقف منذ أن بدأ عهد الإصلاحات السياسية عام 2000.

وعلى الرغم من تفوقه على أقرانه – يقول خليفة - فإن المجتمع المدني البحريني لم يصل الى أوج قوته ونضجه. "هناك مساحات كبيرة لكي يتقدم فيها النشاط، وتتكثف فيها الخبرة، ويتزايد خلالها العطاء" وزاد قائلاً: "لدينا جمعيات لاتزال ضعيفة الأداء، ولدينا مجتمع لم يعطِ بما فيه الكفاية من وقته وماله وجهده.. ولدينا طيف واسع من الموضوعات والقضايا تبحث عن جمعيات أهلية جديدة تتبناها".

 ودعا خليفة الحكومة الى مزيد من الدعم لنشاط المجتمع المدني البحريني، وأن تزيد من دعمها المالي واللوجيستي للجمعيات غير الحكومية، وأن تسهل في القوانين، وتحدث التعديلات المطلوبة في قانون الجمعيات غير الحكومية.