اصيلة: ناقش سياسيون ومفكرون عرب وأجانب الدور الذي لعبته النخبة المثقفة في قيادة الإصلاح والتغيير داخل مجتمعاتها، في الجلسة الختامية لندوة: "النخب العربية والاسلامية: الدين والدولة" ضمن فعاليات الدورة الثامنة والثلاثين لموسم اصيلة الثقافي الدولي.

ويبدو أنّ النخبة المثقفة العربية باتت مقتنعة بأنّ إيصال أفكارهم إلى الجماهير عبر الوسائل التقليدية لم يَعُد مجديا في عصر التقنية ووسائل الاتصال الحديثة؛ حيث دعا عدد منهم إلى استغلال هذه الوسائل للتواصل مع الجماهير.

وقال إدريس لكريني مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات وأستاذ القانون والعلاقات الدوليين بجامعة القاضي عياض في مراكش، انه على امتداد التاريخ الإنساني، لعبت النخب بمختلف أصنافها دوراً رئيسياً في قيادة الإصلاح والتغيير داخل مجتمعاتها، وتنطوي النخب السياسية على أهمية قصوى في هذا الصدد، بالنظر إلى تأثيراتها في القرارات المرتبطة بمختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وأضاف لكريني أنه إذا كانت النخب السياسية قد أسهمت بشكل ملموس في ترسيخ قيم المواطنة والممارسة الديمقراطية، وفي تطور عدد من الدول في أوروبا الشرقية وآسيا واميركا اللاتينية خلال العقود الأخيرة، فإن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها الكثير من الدول العربية، تعكس في جزء أساسي منها الحالة المتردية التي تعيشها هذه النخب والتي جعلتها عاجزة عن قيادة أي تغيير أو إصلاح.

وأوضح لكريني ان التجارب تشير إلى أن الثورات الإنسانية الكبرى في فرنسا، وأميركا وروسيا كان لها مفكروها وفلاسفتها الذين مهدوا لها ورسموا معالم طريقها، بما أسهم بشكل كبير في إنضاج وإنجاح هذه الثورات، وبين لكريني انه عند اندلاع الحراك في عدد من دول المنطقة في عام 2011، بدا حضور النخب خافتاً، فهذا الحراك الذي كانت سمته التلقائية، لم يكن في مجمله من صنع النخب، ومع تطور هذا الحراك وإفرازاته المتسارعة، حاولت الكثير من النخب اللحاق به متأخرة، فيما تعرض بعضها للتشهير والتضييق والاعتداء أيضا في بعض الدول العربية، بفعل مواقف هذه النخب من أنظمة الحكم أو انخراطها في نقاشات فكرية وفلسفية إزاء عدد من القضايا، كما هو الشأن بالنسبة لمسألة الحريات وعلاقة الدين والدولة، فيما أطلقت بعض الجماعات المتشددة فتاوى ضد هذه النخب، لم تخل بدورها من تأثيرات في مستوى كبح أداء النخب وصدّ انخراطها في النقاشات العمومية بصدد مختلف القضايا الحيوية داخل المجتمع.

الحراك امتحانا للنخب

وزاد لكريني قائلا: "لقد شكل الحراك محكّاً وامتحاناً للنخب ولمصداقيتها في المنطقة، حيث أبرزت الأحداث عدم جاهزية هذه النخب، بل وقف الكثير منها موقفا سلبيا، بوصفها تارة بالمؤامرة والتخويف والتشكيك في نجاعتها تارة أخرى.. ومع ذلك فقد شكلت هذه المحطة المفصلية؛ فرصة لبروز نخب جديدة ظلت مغيبة، ولفتح نقاشات جديدة على قدر كبير من الأهمية".

وخلص لكريني الى أنه لا شك أن المسار المرتبك للحراك في المنطقة؛ يسائل النخب السياسية باتجاه بلورة توافقات وقرارات تدعم التركيز على المشترك وتدبير الاختلاف والخروج من المأزق الراهن الذي يفتح المنطقة أمام متاهات خطرة.

جانب من حضور الندوة

 

تحديات هائلة 

ويرى محمود علي الداود السفير ورئيس قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية في بيت الحكمة في بغداد ان الامة العربية والاسلامية اليوم تعصف بها تحديات أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية هائلة يتطلب ايجاد الحلول والمواجهات المناسبة والسريعة لها على مستوى القطر الواحد وعلى مستوى مؤسسات العالمين العربي والاسلامي. وفي مقدمة هذه التحديات ما يمارسه الارهاب الدولي يومياً من عدوان مباشر على الامة العربية والاسلامية شعوباً ومؤسسات.

 وأضاف الداود ان توسع الارهاب منذ يونيو 2014 واحتلال مدن تاريخية كبرى مثل الموصل وتكريت والرمادي والفلوجة وغيرها وما يمارسه من تدمير وحشي للبنى التحتية للعراق والدول العربية الاخرى حيث شملت سياسة الارهاب الوحشية تدمير بيوت الله من جوامع وحسينيات ومساجد وكنائس بالاضافة الى تفجير الرموز الحضارية من متاحف وآثار للتراث القديم والاسلامي والحديث والى جانب نهب المصارف وتدمير المؤسسات المدنية من جامعات ومدارس ورياض أطفال وبتصرفات ظالمة وتعسفية أوقف تنظيم داعش الارهابي التقدم العلمي والمؤسسات الجامعية والتعليمية والمؤسسات المختلفة التجارية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة والعامة ولم تسلم هذه المؤسسات من مخططات داعش الاجرامية الذي لم يتردد من تدمير معظمها وتسويتها بالارض.

وزاد الداودان الممارسات الوحشية التي اقترفها هذا التنظيم الارهابي في العراق لايمكن وصفها لفظاعتها ولم يسلم من شرها الشيخ والمرأة والطفل كما طال هذا الارهاب كل رموز الحضارة العراقية التي تعود الى آلاف السنين وقد وزع هذا التنظيم شروره على كافة العراقيين من دون تميز للقوميات والمذاهب . وفي الوقت الذي دأب هذا التنظيم التكفيري الوحشي على الاحتماء وراء شعارات دينية زائفة رافعاً شعار الدفاع عن "السنة والجماعة" فإن سياسته لحرق الارض العراقية وما عليها شملت كل المناطق السنية في الموصل والرمادي والفلوجة وتكريت ومدن الفرات الاوسط وديالى فانه يفاخر بكل صلافة ودون أي استيحاء ويعترف باستمراره تدميره شبه اليومي لمناطق شاسعة ذات أغلبية شيعية.

انتفاضة يناير نخبوية

من جهته ، قال الرؤائي المصري إيمان يحيى انه فى عام 2003، أي منذ ثلاثة عشر عامًا، فى قاعة تضم مئات من "النخبة"، وفى محض مناسبة "نخبوية" للاحتفاء بالروائيين العرب، ترددت وسط صمت وقور هذه الصرخة: "لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمى أو تعليم. لدينا مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل. تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان وللضرب والتعذيب

وأضاف ان القلة المستغِّلة انتزعت منا الروح، وأن الواقع مرعب، وفى ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لكن لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته.

وتحدث إيمان عن حركة "كفاية" التى انطلقت فى صيف 2003 لتضم أطيافًا من اليساريين والليبراليين والقوميين والإسلامويين، ولتصنع حراكًا سياسيًا واجتماعيًا عبر إشاعة ثقافة الاحتجاج فى المجتمع، التى كانت قد اندثرت منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضى. وكان نزول النخبة إلى الشارع فى مظاهرة 12 ديسمبر 2004 ، المحدودة والصامتة أمام دار القضاء العالى بالقاهرة، بمثابة محاولة حقيقية للتواصل مع الجماهير، سرعان ما تبعتها محاولات ومحاولات. ثم تبعتها "الجمعية الوطنية للتغيير" التى ترأسها محمد البرادعى، الذى أعطى بثقله الدولى دفعة لا يستهان بها للحراك المطالب بالتغيير والإصلاح. إلى جانب "كفاية" والجمعية الوطنية انطلقت اشكال للحركات الاحتجاجية أُطلِق عليها تعبير "أخوات كفاية": جماعة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وشباب من أجل التغيير، ونساء من أجل التغيير ، وأدباء وفنانون من أجل التغيير، وأطباء بلا حقوق.

ويرى يحيى ان انتفاضة يناير ظلت فى جوهرها تحركًا نخبويًا. اتسع ببطء وبالتدريج، واكتسب أبعادًا أكثر اتساعًا عندما اتضح أن النظام الحاكم آنذاك كان ميتًا بالفعل من دون أن يلحظ أحد.

وأوضح يحيى أن دور "النخبة" لا يمكن إنكاره فى إحداث التغيير داخل كافة المجتمعات، "النخبة" بمفهومها الواسع والمتعدد، لا الضيق ولا أحادى الأبعاد، "النخبة" التى لا تعنى فقط "النخبة الحاكمة" أو "نخبة المال والاقتصاد".مبرزاً ان المفهوم الشامل للنخبة يتضمن الشريحة الفاعلة فى المجتمع القادرة على توجيه وإصدار الرؤى المختلفة لحاضره ومستقبله، بما يعنيه ذلك من دوائر سياسية وثقافية وحزبية ومهنية واقتصادية وإعلامية، "النخبة" بمفهوم ديناميكى تضم من يقود الحكم ومن يتزعم المعارضة بكافة تلاوينها السياسية والثقافية والفكرية، لذا لم يكن غريبًا ان يظهر مفهوم "النخبة المضادة" مقابل "النخبة".

ودعا يحيى الى توسيع معركة النخبة المستنيرة والمثقفة ونقلها من حلقات النقاش المحدودة الى التواصل مع الجماهير والاشتباك مع قضايا التراث والحياة المعاصرة.وخلص الى انه لا حداثة من دون علمانية، ولا ديمقراطية بلا مجتمع ودولة حديثة!.

المشاركون في الجلسة الختامية

 

هلامية النخب العربية وضحالتها

من جهته، قال فهد العرابي الحارثي رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والاعلام في الرياض انه من المهم أن يكون للنخب والدين والدولة الصلاحيات اللازمة لتقرير شكل المستقبل وملامحه ومآلاته وشروطه، مع مراعاة التفاوت الملحوظ بينها في القوة والنفوذ والتأثير. 

وقدم الحارثي مقارنة بين انقلابي مصر وتركيا وقراءة هادئة لنتائج الانقلابين ، كاشفاً هلامية النخب العربية وضحالتها وزيفها، إذ ظهر تهافتها، أول ما ظهر في الاستسلام الكامل لفوبيا الإيديولوجيا، فتحولت تلك الفوبيا إلى وقود للصراع بدل الاعتراف بالاختلاف.

ويضيف الحارثي ان الهدف كان هو التصفية الكاملة للخصوم حتى لو كان ثمن ذلك الديموقراطية ذاتها، أو حقوق الانسان، أو سيادة القانون أو غير ذلك. 

 وذكر الحارثي التجربة المصرية قائلا:"وجدنا أنفسنا أمام ليبرالية،أو ليبراليات، عربية مزيفة، تتخلى عن كل المبادئ التي زعمت دائما الإيمان بها والدفاع عنها، فهي الآن تأخذ المكان ذاته الذي كنّا نتهم شاغله " المحافظ التقليدي " بنفي المختلف، وإقصاء المغاير، وأحيانا التنكيل به ، بل زادت تلك الليبرالية أو الليبراليات على ذلك بأنها لا تتردد في الترحيب بعودة حكم العسكر، و تطالب علناً بالقضاء على الآخر نهائيا وتصفيته، فهي بلا مواربه مع تكثيف الاعتقالات ، ومع السجن ، بل تؤيد أحكام الاعدام للتخلص من المخالفين. 

وبيَن الحارثي كيف افتضح واقع النخب الثقافية العربية بصورة أكثر "بجاحة" في الحالة التركية ، إذ تحولت محاولة الانقلاب الفاشلة هناك إلى ساحة مفتوحة للاصطفاف الإيديولوجي : فمهزومو الأمس القريب في مصر وجدوا ضالتهم في الساحة التركية، وللحق فقد بلغت شماتتهم مبلغها ، ولكن الأهم أنهم ظهروا ، أو أظهروا أنفسهم ، المدافعين الأبرز والأمكن عن "الديموقراطية" التي كان سينتهكها العسكر في تركيا. 

وخلص الحارثي انه "في الحالة التركية ، كما في الحالة المصرية ، كانت اللعبة واحدة، اختزلت ذاتها في إطار التحاقد و المكايدة مهما كان الزعم بأن الموضوع هو فكرة "الديموقراطية" المسكينة التي لم نعد نعرف لها في عالمنا " المحدد المحدود" لوناً أو شكلاً أوملامح واضحة لنحتكم إليها ، ففينا من يصر على عدم تحققها إلاّ في الديني " العدل الإلهي " وفينا من يراها أقرب الى الحياد في "البشري " الماثل فوق الأرض : الحقوق والواجبات ، و الشراكة الكاملة في الموطنة ، وسادة القانون" . 

غياب الرؤية المستقبلية 

في نفس السياق، قال الكاتب المصري مراد وهبة إن النخبة الثقافية العربية والإسلامية ليست لديها رؤية مستقبلية، لذلك تركّز فقط على نقد السلطة السياسية، ومناقشة قضايا الديمقراطية والحقوق، بينما المطلوب منها أن تركز على النقد الثقافي لأن المجال الثقافي في العالم الإسلامي محكومة بالأصولية الإسلامية.

وأضاف أستاذ الفلسفة المصري أنّ النقد الثقافي في الوقت الراهن يكتسي أهمّية بالغة، في ظل تنامي التطرّف والإرهاب، وهو أعلى مراحل التطرّف الديني، متسائلا: "ماذا يُجدي حقّ حرية التعبير إذا كان الفرد مهدّدا بفقدان حياته؟"، ليخلُص إلى أنّ النخبة الثقافية في العالم الإسلامي "توجد خارج الصراع الديني وخارج الملعب السياسي".

فهد العرابي الحارثي أثناء مداخلته

 

الجهاديين والتواصل مع الشباب 

وقارن عبد اللطيف الميناوي، مدير قناة "الغد العربي"، بين "ما فعل الفكر الجهادي المتشدد وما فعل التنوير"، وقال إن الجهاديين استطاعوا التماهي مع أساليب العصر والوصول إلى الجماهير الكبيرة، وخاصة الشباب، باستعمال أساليب بسيطة وتمرير أفكار في غاية السلاسة والبساطة جعلت المتلقّين يؤمنون بالأفكار "الجهادية، بل تحركوا إلى الفعل لتطبيقها.

وأضاف الميناوي أن "الجهاديين" نجحوا في إيجاد طريق للحديث والتواصل مع الشباب خاصة، وقدموا إنتاجا فكريا غزيرا ومتوفرا بكثافة، لا يبذل الراغب في الوصول إليه جهدا. وواصل المتحدث منتقداً النخبة الثقافية بالقول إن "الجهاديين" لم يكتفوا بالكتاب المطبوع الحامل لتوقيع صاحبه والذي يوزّع في الملتقيات، بل حاولوا الوصول إلى الناس مستعملين كافة الوسائل، وعلى رأسها الإنترنت، وفهموا العقليات الأخرى، وهو ما يسّر لهم النجاح في مهمّتهم.

وفي مقابل استغلال "الجهاديين" لوسائل الاتصال الحديثة للتفاعل مع المتلقّين، يقول الميناوي: "ما زالت النخبة الثقافية العربية تعيش في أبراج عاجية، ويصعب التواصل بينها وبين الجماهير"، مضيفاً أن هذه الهوّة الفاصلة بين النخبة والجماهير جعلت "الربيع الديمقراطي" يتحوّل إلى كارثة، لغياب مشروع فكري لدى الشباب، وغياب النخبة التي "باعت واقتربت من السلطة والسلطان، فيما كسب المتشدّدون الأرض".

من جهته ، قال حسن عبد الله جوهر، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الكويت، إن النخب العربية الجديدة لم تقدم ما هو إضافي وجديد للشعوب والأمم، "بل ظللنا نتباكى على الماضي، ونغرق في الخلافات وخلق الأعداء، لافتا إلى أنّ أوروبا، وعلى الرغم من الصراعات التي عاشتها، فان ذلك لم يمنع دولها من التقدم والازدهار وتلبية طموحات شعوبها. وأضاف: "يجب علينا أن نكف عن خلق الأعذار للاستمرار في هذا النهج".