في كتابه "حرائق اليمن"، ما أراد خيرالله خيرالله أن يؤرخ لما حصل في هذا البلد خلال 30 عامًا، إنما سرد شهادته في شعب اعتقد أنه عرفه فاكتشف أنه يجهله.

إيلاف من دبي: "خرجت، بعد ثلاثين عامًا من مرافقة شبه يومية للحدث اليمني، بانطباع واحد هو الآتي: كلّما عرفت اليمن واليمنيين، اكتشفت كم أنك تجهله وتجهلهم". هذه خلاصةٌ أولى وبارزة من الخلاصات التي ينمّ عنها الصحافي والكاتب اللبناني خيرالله خيرالله، في كتابه الأخير "حرائق اليمن، شهادات من الداخل- من انهيار دولة الجنوب إلى انهيار الدولة"، الصادر حديثًا عن دار العرب للنشر والتوزيع ودار ناشرون في بيروت، والذي يقدّم فيه سردًا لحوادث مهمة ومحطات أساسية في التاريخ الحديث لليمن.&

الصحافي الشغوف

خيرالله خبير في الشأن اليمني، شهد هذه الحوادث ووثقها من دون أن يدّعى تأريخها، وتابع التطور اليمني منذ أكثر من ثلاثة عقود، فكان حاضرًا حين انهارت دولة الجنوب، وحين توحد اليمنان في عام 1990، وحين اندلعت حرب صيف عام 1994، ثم الهدوء فالحراك اليمني المساهم في موجة الربيع العربي، حتى الانقلاب الحوثي والتدخل العربي لإعادة الشرعية اليمنية إلى نصابها.

لم يكن خيرالله، المخضرم العالم بخفايا الكتابة السياسية، في كتابه إلا صحافيًا شغوفًا باليمن، أحب أهله وأحترمهم، فلا أراد التدخل في حرائقهم، ولا تكلف اجتراح الحلول لمشكلاته. إنه شاهد على عصور هذا البلد المنتقل من أزمة إلى أزمة، من انقسام إلى وحدة، ومن انقلاب إلى حرب، ينسخ مشاهداته عن تجارب اليمنيين في عهود مختلفة، فيحاول بين ضفتي الكتاب أن يخرج على مألوف السيرة إلى متجدد التحليل، متكئًا على مهنية يتحلى بها تطغى على النص المستعر بالحرائق التي يتحدث عنها.

وقبل ثلاثة عقود، حين قصد يمنًا هو يمنان، كتب خيرالله: "اليمن الذي عرفناه لم يعد موجودًا وإن صيغة الشطرين ومرحلة ما قبل الوحدة ليست واردة والسؤال الوحيد الذي يمكن طرحه كم عدد الدول أو الكيانات التي ستقوم في هذا البلد في مرحلة ما بعد انتهاء حروبه الطويلة وهل ستنتهي هذه الحروب يومًا خصوصًا بعدما وجدت القاعدة مقرًا لها على الأراضي اليمنية".

وحتى حين يكتب هذا، لا يتخلى عن واقعيته، فيعرف أن رأيه هذا لن يعجب يمن الجنوب الطامحين اليوم إلى استعادة دولتهم، وعلى الرغم من هذا يؤكد صداقته مع علي عبد الله صالح، الرئيس اليمني المخلوع، والمتهم اليوم بالتآمر مع الانقلاب الحوثي. إلا أنه يصرّ على انتقاد اتصاله بالحوثيين.

إيمان بالوحدة

يقول خيرالله: "إن اليمن هو البلد الوحيد في العالم الذي تتصارع فيه كل القوى من أجل العودة إلى الماضي"، فيختزل في هذه الكلمات القليلة تاريخًا نفسيًا لليمن واليمنيين، وكأنه يقول للجميع إن العودة إلى اليمنين رجعة إلى الوراء، إلى حقبة منصرمة من حقب التاريخ. فالرئيس اليمني الشرعي اليوم عبد ربه منصور هادي يريد العودة، بحسب خيرالله، إلى ما قبل سبتمبر 2014، أي إلى ما قبل ليلة سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء، والحوثيون لا يملكون مشروعًا سياسيًا أو اقتصاديًا، بل يريدون تحويل اليمن إلى مستعمرة إيرانية، وصالح يريد العودة بعقارب الساعة إلى الوراء ليرجع رئيسًا لليمن بعد خلعه بالحراك المدني والمبادرة الخليجية، من دون أن يهتم أي من هذه الأطراف المتصارعة على السلطة في اليمن للمشكلات الحقيقية في البلاد.

لا يخفي خيرالله إيمانه التام بالوحدة اليمنية. وبحسبه، يكرر تاريخ القادة اليمنيين نفسه ولو في أوضاع مختلفة، لذا يسرد وقائع زيارته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في فبراير 1986، بعيد حوادث 13 يناير التي أنهت سلطة علي ناصر محمد، والتي رأى فيها بأم العين كيف تقاتل الماركسيون اليمنيون في عدن، وكيف غطت دماء أعضاء المكتب السياسي في الحزب الاشتراكي أرض قاعة ارتكبت فيها مجزرة حقيقية أنهت جمهورية عاشت في كنف الاتحاد السوفياتي.&

غدر بهم أولًا

في الكتاب، يسهب خير الله في وصف قاعة المجزرة: "كانت أرضها مغطاة بالدم اليابس، فيما تحولت الموكيت الخضراء إلى سوداء، وكان هناك كرسي فيه ثقب من الخلف، وهذا الثقب هو الرصاصة التي استقرت في جسد علي عنتر، نائب رئيس الجمهورية في حينه ووزير الدفاع، وأحد أشد منتقدي علي ناصر".

يضيف: "إن مرافق علي ناصر ويدعى حسان دخل إلى القاعة وأحضر ترموس الشاي الذي اعتاد ناصر على الشرب منه لكونه كان يحاذر عملية تسمم، ويومذاك لم يحضر علي ناصر الاجتماع فيما كانت سيارته المرسيدس تنتظر عند مدخل البناية حيث قاعة الاجتماعات. فوجئ الحاضرون بدخول مرافقه الذي ما إن انتهى من وضع ترموس الشاي في المكان المخصص حتى استدار وشهر مسدسًا صغيرًا أطلق منه النار في كل اتجاه على خصوم علي ناصر"، متهمًا علي ناصر محمد بأنه غدر بخصومه قبل أن يغدروا به.

صالح.. والأرياني

يفرد الكاتب حيزًا في كتابه لتحليل شخصية صالح الذي استطاع تحقيق الوحدة اليمنية في عام 1990، والذي يؤدي اليوم دورًا لا مفر من الاعتراف به في الحرب الخاصلة في اليمن منذ الانقلاب الحوثي الذي غطاه. فخيرالله يتحدث عن الصراع المرير بين صالح والتجمع اليمني للإصلاح (الاسلاميين) بعد حرب 1994 وهزيمة الحزب الاشتراكي وزعيمه علي سالم البيض. كما يتحدث عن علاقته بالحوثيين، بعدما خاض منذ عام 2004 ست حروب ضدهم.

كان صالح يخطط لتوريث ابنه العميد أحمد، لكن خطته اصطدمت بجملة من المعترضين، منهم حميد الأحمر، ابن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر زعيم قبيلة حاشد والمنتمي إلى الإخوان المسلمين، واللواء علي محسن صالح الأحمر، الضابط الكبير قريب صالح والمتصل بصلات قويّة بالإخوان المسلمين والسلفيين.

كما يتحدّث خيرالله عن عبدالكريم الإرياني، فيثمّن غاليًا ما فعله هذا الرجل لليمن واليمنيين، إذ أدار الدبلوماسية اليمنية في أثناء حرب الانفصال في صيف 1994 بحنكة، خصوصًا أنه كان يعلم بخفايا السياسة الأميركية، ما مكنه من تجنيب اليمن حوادث كثيرة.
&