يسير التطور الطبي بخطى يعجز الانسان عن اللحاق بركبها، فالفحوص الجينية وصلت إلى حد القدرة عن كشف كل مستتر في حياة الطفل وهو بعد جنين، فيعرف والداه معدل ذكائه، كما إمكان إصابته بأمراض عادية أو نادرة.&

بيروت: ماذا لو كان الانسان قادرًا على معرفة إذا كان طفله يملك جينًا ذكيًا قبل ولادته، حين يكون مجرّد نقطة صغيرة على صورة الموجات فوق الصوتية؟ بالنسبة إلى إميلي أوستر، أستاذة علوم الاقتصاد في جامعة براون، معلومة من هذا النوع غير موثوقة. فنحن لم نجد جينات يمكنها التنبؤ بالذكاء، وحتى لو علمنا عن أي جينات نبحث بالتحديد، لن نتمكّن من إيجادها في مراحل مبكرة من الحمل.

اختبارات جينية

غير أن هذه الأمور ربما تختلف بفضل نوع جديد من الفحص الجيني للجنين. في الماضي، كان كل ما يتعلّق بطفلك مفاجأة حتى يوم ولادته. صبي أم بنت؟ هل يملك 10 أصابع في يديه ورجليه؟ والأهم، هل هو بصحّة جيدة؟ هل يعاني اضطرابات وراثية كمتلازمة داون، أو التثلث الصبغي 18... وربما لا نزال نعدّ أصابع طفلنا اليوم كما جرت العادة، لكنّ هذا كلّه جزء من الاستعراض لأننا سبق أن تفقّدنا ذلك قبل أشهر في صورة الموجات ما فوق الصوتية.

لكنّ فحص تحليل الحمض النووي للجنين (الخالي من الخلايا) المكتشف حديثًا أحدث مزيدًا من التغيير في مشهد الاختبارات الجينية قبل الولادة. ربما سمعت بهذه الاختبارات لكن بأسماء مختلفة، مثل هارموني Harmony أو ماترنيتي 21 MaterniT21 وغيرهما. وتعتمد هذه الفحوص على عيّنة من دم الأم، وتعطي معدّلات دقّة قريبة من تلك الموجودة في الفحص التشخيصي للجنين مثل تحليل عينة الزوائد المشيمية CVS، لكن من دون أي خطر على الجنين.

تطوّر الفحص&

لا يعتبر الفحص الجيني قبل الولادة جديدًا. فقد بدأ بزل السلى في السبعينيات وسمح للأطباء بتحديد الاضطرابات الجينية في الرحم في منتصف الحمل. وفي العقود التالية، استبدل بزل السلى بالـ CVS الذي يعطي المعلومات نفسها ، لكن مع القدرة على استعماله في مراحل أبكر من الحمل، أي في الثلث الأول وليس الثاني.

هذا يعني أن في إمكان هذه الفحوصات المستعملة لتحديد الاضطرابات الجينية المعروفة، مثل متلازمة داون، اكتشاف اضطرابات صغيرة أو حتى تحديد اختلافات جينومية عادية مثل قابلية الحصول على شعر أحمر (لكنّ هذه الاستعمالات قليلة لأنّ الفحصين الاجتياحيين ربما يشكّلان خطرًا صغيرًا على الجنين). تاريخيًا، كان البديل هو فحص قبل الولادة المعتمد على الموجات فوق الصوتية ultrasound، كونه لا يشكّل خطرًا على الجنين، لكنّه لا يحدّد المشكلة بشكل ملموس، ما يستدعي اللجوء مجددًا إلى الإجراءين الاجتياحيين.

الخطر موجود

لطالما كانت فكرة تحديد مواصفات الجنين في الرحم، والقدرة على الإجهاض، تسبّب توتّرًا لبعض الأشخاص. من هنا أتت يوجينا (علم تحسين النسل) أو تعديل جينات الأطفال في المستقبل. وهذا ليس خيالًا، ففي بعض البلدان، ساهم تحديد الجنس قبل الولادة في اتخاذ قرارات إجهاض بحسب جنس الجنين، ما أدّى إلى تغيير معدلات نسبة الجنس العامة في المجتمع. لكن في الواقع، تم حصر استخدام فحص قبل الولادة في اكتشاف الاضطرابات الجينية الخطرة، لا سيما في الولايات المتحدة، بينما تمّ استبعاد استخدام الوسائل الأخرى لأنّ تجنّب أذية الجنين أهم من الحصول على المعلومات.

إذًا، تقلب هذه الفحوصات الحديثة الموازين، فهي تمثّل اكتشافًا تكنولوجيًا مهمًا لأنّها المفتاح الذي يحدد المشكلات أو المخاطر الجينية، كما تستطيع رؤية الحمض النووي الخاص بالجنين. بينما يقوم فحصا بزل السلى والـCVS باستخدام السائل الأمنيوتي المحيط بالجنين أو المادة المشيمة لاحتوائهما خلايا جنينية، وبالتالي حمضًا نوويًا جنينيًا. لكنّ هذا يعني إدخال إبرة إلى داخل الرحم وأخذ بعض الخلايا، ما يشكّل خطرًا على الجنين.

خلل كروموزومي

يجري بعض الخلايا الجنينية في دم الأم في فترة الحمل، وهذا ليس اكتشافًا جديدًا، لكنّ كمية هذه الخلايا قليلة جدًا، ما يجعل استخدامها صعبًا عمليًا. أما الاكتشاف التكنولوجي المهم فهو التعرّف إلى الحمض النووي الجنيني خارج الخلايا.

عندما يُعزل الحمض النووي الخالي من الخلايا في بلازما الأم، يكون 10 إلى 20 في المئة منه جنينيًا، أي أن الباحثين يمكنهم أن يثقوا في أن جزءًا كبيرًا مما يستخرجونه مصدره الجنين. وفي المبدأ، إذا تمّ فصل الحمض النووي الجنيني عن ذلك الخاص بأمّه، فمن الممكن تحديد تسلسل الحمض النووي الجنيني. ومع أن التكنولوجيا لم تنجح في فعل ذلك بعد، لكنّ هذا الإجراء يعمل حاليًا من خلال البحث في الحمض النووي الخالي المُستقى من الخلايا عن أشياء لا تكون موجودة عادةً في حمض الأم النووي.

لنطبّق ذلك على متلازمة داون مثلًا، فالجنين الذي يُعاني متلازمة داون يحمل نسختين من كل الكروموزومات إلا الكروموزوم 21 الموجود بثلاث نسخ. فإذا نظرت إلى مزيج الحمض النووي الخاص بالجنين والأم، تجد نسخًا إضافية من الكروموزوم 21، وستشكّ في أن الطفل يعاني متلازمة داون. إذًا، في حال وجود أي خلل كروموزومي لافت، تبيّن الفحوصات وجود مشكلة محتملة.

نتيجة غير صحيحة

لكنّ هذا الفحص يركّز على اكتشاف التثلثات الصبغية المعروفة: 18 و13 و21 (متلازمة داون)، بينما يستطيع فحصا بزل السلى وCVS تحديد تثلثات صبغية أخرى ومشكلات كروموزومية أخرى.

ربما لا تكون النتيجة صحيحة، أكانت سلبية أم إيجابية. فالإجراءان الاجتياحيان يعتمدان على الاحصاءات، إذا كان الخلل في الكروموزومات صغيرًا من الممكن أن تكون النتيجة سلبية بشكل خاطئ، وأحيانًا تبدو النتيجة إيجابية مع أن الطفل لا يُعاني أي اضطراب جيني، عندئذٍ تكون النتيجة إيجابية بشكل خاطئ.

لكن، تجدر الإشارة إلى أن النتائج السلبية والإيجابية بشكل خاطئ قليلة جدًا في فحوصات الدم الجديدة، ففي حال كانت الأم الحامل في أوائل العقد الثالث من العمر مثلًا وظهرت نتيجة سلبية، فاحتمال أن تضع طفلًا يُعاني خللًا جينيًا هو 1 على 90 ألفًا. أما إذا كانت النتيجة إيجابية، فترتفع هذه النسبة إلى 66 في المئة.
&
الصندوق الخفي

باتفاق الخبراء، لا يمكن اتخاذ القرارات المتعلّقة بالحمل من دون التوسع في الفحوصات ومتابعتها. لكنّ هذه المشكلة موقتة، فدقّة فحوصات التوقعات الجينية في تطوّر مستمرّ. ففي العام الماضي، استخدم الباحثون فحص الحمض النووي الخالي من الخلايا لتأكيد وراثة الجنين حذفًا كروموزوميًا عن أمّه، وبالتالي اكتشفوا أنّه سيكون معرّضًا لمشكلات بصرية وسمعية.

بشكل عام، تساعد هذه التكنولوجيا على تحديد أي شيء مرتبط بمشكلة جينية محدّدة. وأحرز الباحثون في دراسات الترابط الواسع جينيًا Gene-Wide Association Studies - GWAS تقدّمًا ملحوظًا في تحديد بعض جينات الذكاء. تخيّل أنّه صار ممكنًا إجراء هذا الفحص وتحديد أي من الوالدين يحمل جينة الذكاء، وإن كان الطفل ورثها أم لم يرثها، وينطبق الأمر أيضًا على جينات الطول والبدانة.

تجدر الإشارة إلى أن الحمض النووي الجنيني يبدأ بالجريان في دماء الأم منذ بداية حملها، فتنتظر حتى الأسبوع 10 أو 11 من الحمل حتى تزداد نسبة الحمض النووي، فتجري فحوصات نتائجها أدقّ كثيرًا. ومع تحسّن الإحصاءات والتسلسل، يُمكن إجراء الفحص في الأسبوع الثامن أو حتى السادس من الحمل.
&
كشف المستور

ماذا لو استطاع الانسان معرفة إذا كان الجنين قد ورث طول والده أو لون شعره أو معدّل ذكائه؟ بعض الناس يقرّر إجهاض هذا الجنين إذا كان يعاني متلازمة داون، ماذا لو اكتشفوا أنّه يعاني التوحد أو التأخر العقلي؟

مثلًا، إذا كان الجنين يميل جينيًا إلى البدانة، هل سيراقب الوالدان كل ما يأكله ويصبحان مهووسين بفكرة بدانة طفلهما؟ أم سيتمكّننان من تجاهل المعلومات التي عرفوها قبل ولادته؟

إنه صندوق باندورا الخفي، إذا فتحناه وسمحنا بخروج المعلومات منه نفقد السيطرة على الأهداف المرسومة لاستعماله.

فمعرفة المزيد من المعلومات تساعد على اتّخاذ قرارات أفضل، ولا يمكن أن يجعل ذلك الإنسان أسوأ حالًا، لأنّه يملك خيار تجاهل هذه المعلومات كلها.

من هذا المنطلق، يجب الترحيب من دون أي تحفظ بهذه التطورات في الفحوصات الجينية، لأنها مفيدة وقادرة على تحديد الظروف الجينية الخطرة في مرحلة مبكرة، ما يساعد الأهل على وضع حدّ للحمل في أولى مراحله، حين لا يسبّب مضاعفات خطرة جدًا.

صعب جدًا فرض التوازن بين قيمة المعلومات من جهة وسوء استخدامها من جهة أخرى. ومعيب أيضًا إيقاف تقنيات واكتشافات ربما تكون منافعها رائعة، لكن في الوقت نفسه معيب متابعة تطوير هذه التقنيات من دون التفكير في العواقب. ينبغي أن نبدأ في التفكير من هذه اللحظة، فالمستقبل أمامنا أكنّا مستعدّين له أم لم نكن.
&
أعدّت إيلاف هذه المادة عن "تايم" البريطانية، على الرابط الآتي:

http://time.com/expectingbetter/?xid=newsletter-brief
&