بيروت: في يوم ممطر من فبراير 2011، عُقد آخر اجتماع لأبناء رعية الثالوث الأقدس في مدينة باث. ولقرنين من الزمن تقريبًا، مارست التجمعات الأنغلوكاثوليكية مراسم العبادة والصلاة في هذا المكان، تحت سقف هذه الكنيسة وبين نصب تذكارية تخلّد أبطال الحروب النابوليونية.

اليوم، نجحت فاتورة التصليحات الكهربائية البالغة 52 ألف دولار في إنجاز ما عجزت عنه القنبلة الألمانية: الكنيسة ستغلق أبوابها وتنهي كل المسائل العالقة. وبعد الاتفاق على الإجراءات والمعاملات الشكلية، قام أبناء الرعية بقدّاس أخير. أما الرسالة الختامية فكانت: "نطلب السماح فيما نعترف بمشاعرنا السلبية ومخاوفنا من المستقبل"، وتمّ عرض المبنى الكنسي للبيع على موقع كنيسة إنكلترا الإلكتروني.

تدنّي نسبة التدين

في العام الماضي، شهدت الكنيسة ارتفاعًا شديدًا في تدابير من هذا النوع، ونشير في ذلك إلى الحدث اللافت الذي واجهته بريطانيا في يناير، حيث هبط عدد الحضور الأسبوعي في الكنائس إلى أقل من مليون شخص للمرة الأولى، وكذلك في العام 2009 حين تجاوزت نسبة البريطانيين غير المتديّنين (49 في المئة في عام 2015 بحسب آخر بيانات واردة) نسبة المسيحيين (43 في المئة في 2015)، وذلك بحسب استفتاء للمواقف الاجتماعية البريطانية NatCen’s British Social Attitudes.&

وثمة أرقام أخرى تشير إلى هذا التجاوز أيضًا: فمنذ عام 2004، انخفضت المعموديات الكنسية بنسبة 12 في المئة، والزواج الكنسي بنسبة 19في المئة، بينما تراجعت الجنازات بنسبة 29 في المئة. ووفقًا لدراسة غطّت 65 دولة أجرتها مؤسسة غالوب الدولية والشبكة العالمية المستقلة WIN في العام الماضي، نسبة المتدينين في بريطانيا أقل من كل الدول الباقية ما عدا 6 دول.

استثناءات ما قبل الحرب

بقيت نسبة الالتزام الديني لكل جيل كما كان دائمًا: فقد وصف 80 في المئة من فوج ما قبل الحرب نفسه بالمتدين. في الواقع، يميل 40 في المئة من البريطانيين المولودين بعد عام 1980 إلى اعتماد هذا الوصف. لكن ثمة استثناءات، فبعض الكنائس الموجود داخل المدينة مزدهر وحيوي، وتحديدًا في المناطق التي تشهد هجرة واسعة، ويأمل رجال الدين أن تكون هذه النجاحات معدية فتنتشر في أجزاء أخرى من البلاد. في هذه الأثناء، تنمو الديانات الأخرى مثل الإسلام لكن بسرعة غير كافية لإبطاء نمو بريطانيا غير المتدينة.&

في ألفيتين

الإثباتات التي تشير إلى التغيير موجودة أينما كان. ففي كل مكان، يتم تحويل الكنائس من أماكن مقدّسة إلى حانات ومطاعم. في الواقع، تحوّلت 500 كنيسة إلى منازل فخمة في لندن وحدها في خلال السنوات الخمس الماضية. أما التركيبة القاتلة فتقلّص التجمعات الدينية وتزايد فواتير التصليحات: ربع قداديس يوم الأحد يحضرها أقل من 16 مصلّيًا. وتبذل كنيسة إنكلترا جهدها للسيطرة على هذه النزعة. وفي حال لم يتم عكس اتجاه هذا التراجع، فسيواجه المجتمع بأسره تساؤلات كبيرة.

زُرعت المسيحية في الحياة البريطانية على مدار ألفيتين. وبالتأكيد، يخلّف التقلّص الحالي الحادّ في الفئة المتدينة فجوة مادية كبيرة، فبينما يسيطر عدد كبير من القيود على عملية بيع المعالم السياحية والأعمال الفنية، فكنيسة الأبرشية التي تشكّل رمز الطابع البريطاني الوطني تتحوّل تدريجيًا إلى ذكرى. في بعض الأحيان، تبقى هذه المباني أماكن عامّة&مثل المقاهي والحضانات. لكن في معظم الأحيان يكون الوضع مختلفًا.

حوض سباحة؟

في عام 2013، بيعت إحدى كنائس لندن التي تحولت إلى منزل مع حوض سباحة فخم بني في سرداب الكنيسة مقابل 65 مليون دولار تقريبًا. هل من المنطقي إغلاق هذه الأماكن نهائيًا في وجه العامة؟
تواجه الكاتدرائيات الوطنية صعوبات كثيرة، فصيانة السطوح الراشحة والنوافذ المفتوحة والكنوز الفنية تكلّف أكثر من 1.3 مليون دولار سنويًا. على كنيسة يورك مينيستر مثلًا، التي تتمّ تغطيتها بزيت الزيتون لحمايتها من الأمطار الحمضية، دفع فواتير بقيمة 26 ألف دولار تقريبًا في اليوم.

ودفعت الحكومة مبالغ تقديرية لتغطية بعض الترميمات، وأحدثها زهاء 26 مليون دولار لتمويل ذكرى الحرب العالمية الأولى. لكن هل من الملائم أن يعتمد حجر الأساس في تراث الأمة على نزوة وزارية؟ أو أن يقدم دافعو الضرائب دعمًا ماليًا إلى الديانات المنظمة؟

الكنائس تكمّل دولة الرفاه

يأتي البعد غير الطقوسي. فالكنائس أماكن للتفكير والتأمل، وفي زمن تكافح فيه الحانات أيضًا لتبقى مفتوحة، فهي حصن ضد الانحلال الاجتماعي. وقبل أن تقفل أبرشية الثالوث الأقدس أبوابها في باث، كانت تنظم صفوف رقص وتمارين لفرق موسيقية، وتستضيف جماعات الاستشارة والمحاضرات.&

هل ينبغي أن يوفّر المجتمع المدني مصادر جديدة للتوجيه؟ في عام 2008، أنشأت مجموعة من الفلاسفة مؤسسة مدرسة الحياة كحركة علمانية للديانة المنظمة. هل ينبغي إطلاق المزيد من المبادرات المماثلة؟ فالكنائس تكمّل دولة الرفاه. ارتفع عدد الرزم الغذائية الطارئة التي وزّعتها الجمعية المسيحية الخيرية في بريطانيا من 26 ألفًا في 2008-2009 إلى 1.1 مليون في 2015-2016. وتتواجد بنوك الطعام هذه في 14 في المئة من الكنائس البريطانية. هل على الدولة التفكير في تدابير أخرى تحلّ مكان هذا الدور؟ أم ينبغي أن تدعمه وتكفله؟

بريطانيا تقود المسيرة

أسئلة معقدة لا مفر منها، لا تلقي بثقلها على الحكومة فحسب، بل على المجتمع المدني والخدمات العامة والمؤسسات الثقافية وفاعلي الخير والمواطن العادي.

حان الوقت بالتأكيد للاستفادة من النقاشات المنسقة. فبريطانيا ليست الوحيدة التي تواجه هذا الوضع، بل هذا موضوع صراع سيحلّ قريبًا في معظم بلدان الغرب. وتشير الدراسات التي أجراها مركز بيو للبحوث إلى أن أستراليا وفرنسا وهولندا تخسر أغلبيتها المسيحية بحلول عام 2050. حتى في أميركا، ارتفعت نسبة الفئة غير المتديّنة من 16 إلى 23 في المئة بين عامي 2007 و2014.

وتتجه بريطانيا أكثر من غيرها نحو مجتمع لا​ ديني، لذلك ينبغي أن تقود المسيرة.

أعدت "إيلاف" هذه المادة عن "إيكونوميست" على الرابط أدناه:

http://www.economist.com/news/britain/21704836-britain-unusually-irreligious-and-becoming-more-so-calls-national-debate?frsc=dg%7Cc