ايلاف من بيروت:&تعتبر بوينس آيرس& مدينة مثيرة للفضول، فهي تتميز بمبانيها الفرنسية الطراز وأشجارها المهيبة التي تلوح بضجر في الأفق قرب أرصفة ممزقة، الا أن تفاوت مستوى المعيشة لدى سكانها شكل أزمة لهم، فيمكن في هذه المدينة ايجاد من ينزه كلبه الفاخر، ومن جهة أخرى فقر شديد ودائم&واحتجاجات رديئة المستوى، مع الاشارة الى أن الأرجنتينيين شعب نال جائزة في التذمر، وعلى الرغم من أنّها تتقهقر بامتعاض مبتعدة عن أمجادها الماضية، الا أن المدينة تتغنى بأهميتها التاريخية، فهي كانت من أغنى دول العالم.&

مهد المواهب&

كانت الأرجنتين وما زالت منبع مواهب وإنجازات كثيرة في كل المجالات تقريباً، وعلى الرغم من الأوقات الصعبة التي مرت بها والعزلة النسبية والانقلابات السياسية المستمرة، الا أنه يكاد لا يخلو بلد حول العالم من أطباء وعلماء بارزين وخبراء في القوانين الدولية وموسيقيين وقادة أوركسترا. ويبرع الأرجنتيون بشكل خاص في الرقص، فإنتشر الباليه في دولة الأرجنتين في القرن الـ21 تقريباً، حيث حملته إليها مجموعات مسافرة مثل فرقة باليه ديغيليف الروسية، لكنّ هذا النوع من الرقص تجذّر بعمق. فتمكّن هذا البلد من جذب أهم الراقصين ومصممي الرقص للعمل في مسرح كولون الراقي والواسع، وهو مبنى أميري ضخم في &شارع أفينيدا 9 دي خوليو. وقد عمل كلّ من جورج بلانشاين و برونيسلافا نيجينسكا هناك، كما أنّ آنا بافلوفا ورودولف نورييف رقصا في ذاك المكان.&

يتعلّمون الرقص هنا... ويغادرون

وتوافد المدرّسون الأوروبيون في أوائل القرن العشرين، هرباً من الثورات والحروب، فدرّسوا الجيل التالي من المدرّسين، وهكذا دواليك حتى يومنا هذا. وما زالت الأرجنتين تصنع عددًا من أرفع الراقصين الذين يشقّون طريقهم إلى أهم شركات الباليه في العالم، من بينهم خوليو بوكا، ماكسيميليانو غيرا، بالوما هيريرا، لودميلا باغلييرو، هيرمان كورنيخو، وماريانيلا نونيز. هذا إذا أردنا أن نذكر النجوم فحسب، لكنّ مفخرة الأرجنتين هي خسارة لها في الوقت نفسه، فقد صرّح الفنان المبدع كورنيخو خلال رحلة قصيرة له إلى مدينته الأم بوينس أيرس قائلاً: "كل الفنانين الذين أثاروا إعجابنا، تدرّبوا هنا ثم غادروا البلاد، فالفكرة السائدة هي أنّ المدرسة هنا، لكنّ الحصول على مهنة يستدعي المغادرة".&

كيف دخل كورنيخو عالم الباليه؟

كورنيخو الذي أتى إلى المدينة لحضور حفل باليه في مسرح كولون، استرجع بعض الذكريات عن تعلّقه برقص الباليه حين كان طفلاً. فهو لا ينتمي إلى عائلة من الراقصين والفنانين، حيث كان والده عسكرياً، وفي عمر الـ5 أو 6 سنوات، أعطته والدته فيلماً مصوراً عن الفنان السوفياتي فلاديمير فاسيلييف وهو نجم عظيم رقص في عرض سبارتاكوس المسرحي مؤدياً دور البطولة، فتأثر كثيراً به، فما كان من أمه الا أن اشترت له تذكرة لحضور عرض باليه مباشر في& مدرج لونا بارك في وسط المدينة، بعد ذلك، قرّر كورنيخو أن يصبح راقصاً. درس في مدرسة كولون وفي المعهد العالي للفن، اضافة الى أنه ربح ثلاث جوائز عالمية مهمة، ثم غادر الأرجنتين ليلتحق بمسرح الباليه الأميركي. وهو الآن في منتصف العقد الثالث من العمر ويعدّ من أهم الراقصين الذكور في العالم، ولكن لم تتمّ دعوته للرقص في كولون إلا حديثًا. وقال الى أحد الصحافيين المحليين "لقد حظينا بمهنة عظيمة في نظر أشخاص كثر، لكنّ العودة إلى الأرجنتين تطلّبت جهوداً كبيرة"، وسوف يرقص كورنيخو في كولون مجدداً في نوفمبر، في عرض "باليه لا بايادير" الثلاثي، إلى جانب لودميلا باغلييرو، وهي& راقصة أرجنتينية من الدرجة الأولى ونجمة في حفل باليه أوبرا باريس.

موهبة نونيز&

الى جانب كورنيخو، رقصت في الحفل زميلة له في الدراسة تدعى ماريانيلا نونيز،&وهي أيضاً تركت بدورها الأرجنتين في سن مبكرة (14 عاماً)، وفي عمر الـ16، انضمت إلى فرقة "الباليه الملكي" في لندن حيث أصبحت الآن راقصة رئيسية، وتماماً مثل كورنيخو، فهي تملك تقنية خالية من أي عيب، وحسّاً موسيقياً عالياً ونوعاً من التواضع الباهر على المسرح. فهي لا تجذب انتباهك بالقوة كما تفعل راقصات أخريات، بل تشدّك بصمت بطريقتها العفوية الطبيعية، وفجأة تطير في الهواء. أما خطواتها الانتقالية فلا مثيل لها، فهي تستخدم تقنية خفية بدلاً من الأسلوب الظاهر الشبيه بالألعاب النارية.&وبعد أيام من حفل الباليه، أدّت دور تاتيانا في مسرحية اونجين Onegin، وهي عبارة عن عرض راقص مستوحى من كتاب لبوشكين يدور حول وقوع رجل يشعر بالملل في حب فتاة قام بإحراجها مرة، وكانت هذه أول حفلة باليه طويلة لها مع الشركة.&

عائلة واحدة

كان الأداء المسرحي مشعاً ودقيقاً، وفي نهاية العرض عند إسدال الستار، أطلّت نونيز وعيناها مغرورقتان بالدموع. وفي اليوم التالي، بعد البروفة، التقتها مراسلة صحيفة نيويوركر في مقهى بيتي كولون حيث قالت لها: "لقد مرّت في بالي ملايين الذكريات في تلك اللحظة"، حيث كانت أمها في الماضي تنتظرها هناك بعد صفوف الباليه، وقد حضر أهلها العرض المسرحي الذي أدّته، وتأثّر والدها تأثراً شديداً: “ وقف والدي في الزاوية بهدوء بينما كان الناس يهنّئونني، وفجأة أجهش بالبكاء". وردًا على سؤال حول شعورها حين رقصت مع زملائها القدامى من أيام الدراسة الذين لا يزالون في الشركة، أجابت:& "الجميع قال لي "وكأنّك لم تغادري قط". الرجل الذي أعادها هو المدير الحديث للشركة: ماكسيميليانو غيرا، فأعاد الأمور إلى سابق عهدها. وبطريقة غريبة ثمة صلة غريبة تربط كورنيخو ونونيز وغيرا، وكأنّهم عائلة واحدة.&

تحدثت نونيز عن العدد الكبير من الراقصين الأرجنتينيين العظماء قائلة: "أولاً نحن ننطلق من قاعدة ثابتة، ولدينا مدرّسون بارعون هنا، ولكن لا شيء يقدَّم لنا على طبق من فضّة، فمنذ صغرنا نتنافس دوماً لنصل إلى ما نريد، إنّه شيء فطري نحمله في داخلنا، وعندما نسافر إلى الخارج، يلاحظ الناس ذلك".&

مستقبل واعد

استمرّ التصفيق بعد عرض اونجين لفترة طويلة. وبعد دقائق قليلة، تمت مشاهدة الراقصة الشابّة ماكارينا جيمينيز والتي كانت تتمرّن في عرض باليه السنة الماضية. وهي راقصة أرجنتينية& أخرى ينتظرها مستقبل واعد فهي تملك تقنية جميلة وإمكانيات لا حدود لها. وبينما كانت تقف هناك، بالكاد تصفق&وكأنها في غيبوبة، فالدموع تغطي وجنتيها.&

جيمينيز ستؤدي في نوفمبر دور&"غامزاتي" الراقصة الثانية في لا بايادير مع كورنيخو. ومن يدري ماذا سيحدث بعد ذلك؟

أعدّت "إيلاف" هذه المادة عن موقع "ذا نيويوركر"&

المادة الأصل هنا

&

&