ايلاف من الرباط: يتناول الفيلم الوثائقي "الاحتفال ذهابًا وإياباً"، الوضع المتفرد للمرأة في المجتمع الصحراوي، الذي يشترط على الرجل، عند الزواج بها، أن يعاملها بالعدل وعدم الإساءة وعدم تضييع أي حق من حقوقها الثابتة؛ إذ بخلاف العديد من المجتمعات العربية يضع المجتمع الصحراوي أمر المرأة بيدها في حالة ما أراد الزوج أن يتزوج عليها، وذلك في إطار احترام شرط "لا سابقة ولا لاحقة"، المعمول به لدى بعض القبائل، والذي تم تكريسه في المجتمع الحساني.

وتشير الإضاءة المقدمة لهذا العمل الفني، مغربي الإخراج والإنتاج، إلى أنه بناء على المعطيات المرتبطة بوضعية المرأة، ليس غريباً أن ينتفي العنف ضد النساء في الصحراء، لذلك يعتبر منبوذاً ولو صدر من طفل صغير في حق أخته، كما يشير إلى ذلك الفيلم؛ الشيء الذي يفسر لماذا يتم الطلاق، في المجتمع الصحراوي، بشكل سلس ومن دون تعقيدات، وفي إطار من المودة والاحترام بين الرجل والمرأة، حيث لا ينظر المجتمع الحساني نظرة دونية للمطلقة أو يعتبرها وصمة عار، كما هو الحال في باقي المجتمعات العربية والإسلامية، بل يعلي من شأنها ويحتفي بها ويحتضن أبناءها ويرفع من مهرها مقارنة بالبكر.

وجاء في نفس الإضاءة المقدمة للفيلم، الذي أخرجه محمد البوحاري، أن ثراء القيم الإنسانية والحضارية للمجتمع الصحراوي هو ما "حفز على إنجاز هذا العمل، قصد التعريف بهذا التراث الإنساني الذي يعلي من مكانة المرأة، الذي لا تنحصر تجلياته في الممارسة فقط، بل عبر جميع أشكال القول الشعري الحساني وفي الأمثال الشعبية، وفي كتابات الباحثين والرحالة والمستشرقين"، حيث يقدم الفيلم "غنى وثراء هذه القيم في شكل فرجوي اختار له حفل الزواج والطلاق كخيط موجه، لنعيش من خلاله أجواء وطقوساً لها دلالتها الرمزية في تكريم المرأة، كـ "الترواغ" و"تكاليع البند" وإعداد خيمة العروس، وصولاً إلى حفل الطلاق"، فيما يتخلل هذا البناء فسحات للشعر والغناء والرقص والنقاش والتحليل من خلال مساهمة باحثين وشيوخ من أهل المنطقة.

صور من الفيلم الوثائقي

&

المعالجة الإخراجية

نفس الإضاءة، تضعنا في صلب المعالجة الإخراجية والبناء السردي والمعالجة البصرية( المرئية) للعمل. فمن جهة المعالجة الإخراجية، نكون مع اختيار الموضوع، إذ أن "الزواج أو الاحتفال بالمطلقة ليسا مجرد طقسين احتفاليين في المجتمع الصحراوي، بل يمثلان مؤسسة لإنتاج القيم بشكل متمايز. ومن هنا يأتي اختيار هذين الطقسين لأهميتهما من الناحية الأنتربولوجية والنفسية"، حيث أن "الزواج والطلاق لدى أهل الصحراء وإن كانا نقيضين: اتصال وانفصال؛ هما متكاملان ويصبان في بوثقة واحدة عنوانها: تكريم المرأة".

لذلك نكون، في الفيلم، مع "الترواغ"، الذي هو "شكل فرجوي وتمثيل رمزي لقيمة المرأة. فلا المهر، مهما غلا، ولا المغريات، بكل أشكالها، كافية للحصول على العروس. بل البحث المضني والشاق هو السبيل الوحيد للظفر بالحبيبة. الاحتفال بالمطلقة هو أهم مناسبة تبرز بشكل لا نظير له كيف يعامل أهل الصحراء نساءهم. هنا إشارة واضحة واحتفال بالحرية المستعادة". كما يتم تقديم الطلاق، على أساس أنه "ليس عيباً في المجتمع الصحراوي المغربي"، حيث "لا تترتب عن فسخ العلاقة عداوة بين الطرفين، العائلة تحتضن الأطفال ولا تطالب الزوج بالنفقة، العائلة والقبيلة تعلي من شأن المطلقة، كما أنها تصير محط أنظار شباب القبيلة ومبتغاهم".

على صعيد البناء السردي، يصبو الشريط إلى الجواب على السؤال التالي: "كيف لمجتمع يعيش في وسط شحيح وقاسٍ أن ينتج هكذا قيم، قيم متقدمة جداً في ما يخص احترام المرأة وتمتعها بامتيازات عدة؟". ليست في الشريط لحظة إجابة، بل "تسلسل أحداث وإضاءات باحثين ترسم جميعها، رويداً رويداً، لوحة تعريفية بهذه الثقافة وهذه القيم. كما يحمل طقس "الترواغ"، في طياته، صراعاً درامياً يتم استغلاله لإقحام المشاهد وشده إلى متابعة الشريط اعتماداً على عنصر التشويق الذي يضمنه التمويه المتكرر".

بدل نبذها تحتفل الأسرة الصحراوية ببنتها المطلقة، محولة هذا الحدث المؤسف إلى لحظة فرح

الاحتفال بالمطلقة

بالنسبة للاحتفال بالمطلقة، "هناك، أولاً، عنصر المفاجأة لدى المشاهد العربي خاصة، والأجنبي عامة، الذي يختزن صورة نمطية عن المرأة العربية. فبدل نبذها تحتفل الأسر ببنتها المطلقة، محولة هذا الحدث المؤسف إلى لحظة فرح. كما يحيل على صراع درامي وتشويقي للمنافسة من أجل استمالة قلب المطلقة من طرف شبان القبيلة أو غيرهم؛ بل حتى من محاولات الزوج السابق لاسترجاعها".

من جهته، يرتكز التناول البصري( المرئي)، في الفيلم، الذي أشرف على إنتاجه وإدارته وتنفيذه، على التوالي، كل من عبد الواحد المهتاني وفاطمة عاشور وخديجة الفتحي، على عنصرين أساسيين، هما الإنسان والمكان، أي المرأة والصحراء. فـ"بخصوص المرأة، حرص الفيلم على التقاط الألوان والأشكال الاحتفالية بشكل مقرب بالتركيز على التفاصيل (الملابس، الحلي، أدوات التزيين، الطبخ، الشاي، الآلات الموسيقية، حركات الرقص ...)؛ حيث تكون الكاميرا قريبة من الإنسان لتفادي موقع المتفرج المحتشم. بل إن الكاميرا المحمولة، المتحركة، تعيش مع الناس، خلال العرس، فرحتهم، وتسمح بذلك للمشاهد أن يعيش العرس من الداخل، بشكل يضمن تجاوز الوصف والنظرة الفلكلورية لسبر أغوار هذه الثقافة.

فيما تجسد الصحراء معاني الصمت والامتداد للحرية والانطلاق، حيث تحضر الكاميرا الثابتة المتأملة لهذا الوسط الممتد وهذه الفراغات التي تشكل مصدر إلهام لدى ناس الصحراء، حيث الفضاء فسيح يغري بالتقاط الصور الجميلة وللوقوف المتأني لمساءلة هذه البيئة ومعرفة كيف جعل منها الإنسان الصحراوي مصدراً للتخيل الخصب". لذلك "يترجم المزج بين اللقطات المتحركة والمقربة وبين اللقطات الثابتة والعامة هاتين الركيزتين: المرأة والصحراء، ويضمن إيقاعاً متميزاً خاصاً بهذا الشريط. والكل يروم تحقيق متعة مرئية تواكب متعة اكتشاف هذه الثقافة المتفردة. جمالية الصورة والإيقاع الذي يسمح به عنصر التشويق يضمنان التماهي والاستمتاع لدى المشاهد. بل حتى بالنسبة للمتدخلين هم ذوو حضور جسدي في الصحراء يتجاوز تسجيل المقابلات داخل وسط مغلق (مكتب، مثلا). وهو ما يعتبر إضافة نوعية للشريط، أي &أن نضع الباحث في اتصال مباشر مع الناس موضوع اهتمامه. وهو ما ساهم في إغناء التدخلات بالتفاصيل الحية بدل اللغة العالمة".

&

&المجتمع الحساني لا ينظر نظرة دونية للمطلقة

&