تأرجحت نتيجة استطلاع "إيلاف المغرب" بخصوص رأي متصفحي الموقع، إزاء احتمال مشاركة جماعة "العدل والإحسان" الإسلامية شبه المحظورة، واندماجها في الحياة السياسية الديمقراطية في المغرب، بعد التغيير الكبير الذي طرأ على نظام الحكم كما تجلى في الدستور الجديد للمملكة الذي صادق عليه المغاربة عام 2011 بنسبة عالية، وأدى إلى وصول الإسلاميين المعتدلين (حزب العدالة والتنمية) إلى سدة الحكم، وتشكيل حكومة هي الأولى في طبيعتها وصلاحياتها، التي يعرفها المغرب منذ استقلاله، وهم مرشحون حاليًا لقيادة حكومة ثانية.

إيلاف من الرباط: تزامن التحول الديمقراطي في المغرب، وبروز حزب العدالة والتنمية، كقوة حزبية متصدرة للمشهد الحزبي، مع رحيل مؤسس الجماعة الشيخ عبد السلام ياسين، وانتخاب مرشد جديد هو الشيخ محمد العبادي.

عقاب ياسين
ساد الاعتقاد بعد رحيل ياسين، وانحسار دور كريمته "ندية"، وقبل ذلك وفاة الملك الحسن الثاني، الذي كان فرض شبه إقامة محروسة على الشيخ ياسين عقابًا له على المواقف المتشددة التي أعلنتها الجماعة في مناسبات مختلفة، اتسمت برفض التعامل مع الحكم القائم، والتشكيك في مشروعيته، من دون دعوتها إلى استعمال العنف في يوم من الأيام لفرض آرائها؛ ما أكسبها تعاطفًا في المجتمع المغربي من دون أن يشاطرها المغاربة أسلوب تعاطيها السياسي القائم على رفض الانخراط في الحراك السياسي العادي، ما يفرض على الجماعة القبول بآليات اللعبة الديمقراطية، والتحول إلى حركة سياسية على مسافة كبيرة من النزعة الدينية" التيوقراطية".

تراوحت مواقف المشاركين في استطلاع "إيلاف المغرب" بين القائلين (60 في المائة) إن الجماعة لن تنخرط في الحياة السياسية الطبيعية، بل سيظل موقفها من الحكم مشوبًا بالنقد الجذري. في حين قال 30 في المائة "نعم"، و10في المائة "لا".

فكيف تفسر النتيجة؟ 

إذا بدأنا بالرافضين الذين يشككون في حدوث تغيير في موقف الجماعة من المشاركة، فالأمر واضح، لكون الإجابات تنطلق من مواقفها المعلنة، بكيفية منتظمة حيال الأحداث السياسية المهمة التي يعرفها المغرب، والتي يرهن بعضها مستقبل البلاد. 

المثال الواضح على ذلك محطة الانتخابات التشريعية والبلدية، التي دأبت الجماعة على مقاطعتها منذ عقود، رافضة تزكية ما تسميه "الفساد الانتخابي" الذي تعتقد الجماعة أن المغاربة يرفضون أشكاله، وذلك بمقاطعة الاستحقاقات، وتحتسب الجماعة لمصلحتها نسبة الممتنعين عن التصويت، وكذا أصحاب الأصوات الملغاة.

حضور فاعل
يبدو أن في هذا التأويل مبالغة واضحة من طرف الجماعة، لا تقلل من وجودها النسبي في المجتمع، لأسباب يتعلق بعضها بنزعتها السلمية ونبذها العنف، كما يعود ذلك إلى توجهها الديني الطهراني، الميّال إلى التكافل والإحسان وفعل الخير، مثلما أن لها حضورًا في الساحة السياسية، من خلال مشاركة أنصارها في التظاهرات الحاشدة التي تدعو إليها النقابات والأحزاب، لكن الجماعة الأحسن تنظيمًا وانضباطًا تستفيد من مظلة الأحزاب والتنظيمات الشرعية.

ماذا تعني نسبة "نعم"، وهي تشكل ثلث المستطلعين؟، أي سبب يجعلهم مراهنين على تغيير في موقف الجماعة بالتطور نحو انفراج تام واعتراف بها كقوة سياسية منظمة، تعامل وفق الدستور والتشريعات المؤسساتية القائمة؟.

جنوح نحو الاعتدال
يشير هذا الاحتمال المتفائل إلى تحول نوعي متدرج في خطاب الجماعة، حيث أصبح ميالًا إلى الاعتدال من خلال تلطيف العبارات المستعملة، بدلًا من الغلو والتشدد والأحكام القطعية الجاهزة التي ميّزت خطابها وأدبياتها خلال حياة المرشد الراحل المؤسس عبد السلام ياسين.

يجوز القول في هذا الصدد إن "العدل والإحسان" باتت تميز بين نهجين في الحكم وفي أسلوب التعاطي معها: نهج اتسم في البداية بالمواجهة بينها وبين النظام، أو لنقل بعبارة صريحة بين المرشد عبد السلام ياسين، والملك الحسن الثاني. الأخير رفض دائمًا مرجعية دينية منافسة في البلاد، ذات لبوس سياسي. ذاك وضع لم يقبله، وهو سبب رئيس لديمومة الأزمة بين الملك ومرشد الجماعة، مع التذكير أن الملك الراحل لم يهن الشيخ ياسين أو عامله بالغ السوء، وإنما كان يقدر في العمق نزعته الصوفية وزهده في الحياة الدنيا، لكن للسياسة مقتضياتها وقوانينها الوضعية، يجب أن يمتثل لها الجميع، وإلا عمّت الفوضى، وانهارت المرجعيات.

اختار العاهل المغربي الملك محمد السادس، منذ توليه الملك، نهجًا مغايرًا إلى حد ما، لما دأب عليه والده، فقد أعطى، كملك جديد، إشارات عدة إلى أنه راغب في القطيعة مع تجارب الماضي، وطيّ صفحتها للانكباب على ما يتطلبه بناء الحاضر والمستقبل، فعمل على مصالحة المغاربة مع أنفسهم ومع ماضيهم، عبر سلسة إجراءات حقوقية جريئة لا يمكن إنكار جدواها لكونها بعثت الأمل والاطمئنان في نفوس المغاربة. وكان من الطبيعي أن تستفيد جماعة "العدل والإحسان" من التوجه الجديد لنظام الحكم في المغرب، لكنها تحفظت، ولم ترحب صراحة باليد التي مدت نحوها.

انخراط مشروط
في هذا السياق لا يستبعد أن يكون العهد الجديد قد حاول نسج خطوط مع "العدليين"، وربما قام موفدون ووسطاء بجس النبض في الاتجاهين، وليس مستغربًا كذلك أن الحكم قدم إلى الجماعة عرضًا منطقيًا، بدعوتها إلى تجاوز احتقان الماضي للانخراط في النظام العام، لتتمتع في المقابل بالحقوق التي تستفيد منها باقي المنظمات المدنية. وربما اشترط عليها الإبقاء على المجال الديني شأنًا خاصًا بالملك، باعتباره أمير المؤمنين وحامي الملة والدين، كما ينص على ذلك دستور المملكة، حرصًا من الملك على وحدة المذهب في ظرف تتوزع المسلمين طرائق وشيع.

هذه هي الحيثيات التي نعتقد أن المجيبين بـ "نعم" راعوها، وهم يدلون برأيهم في ما سألتهم عنه "إيلاف المغرب"، وهي نسبة تشير من دون شك، إلى تطور متمهل يسير في اتجاه تغيير العلاقة بين الحكم و"العدل والإحسان" نحو أفق "التطبيع" بمعناه الوطني وليس السياسي، لا ندري الصيغة التي سيتخذها.

شمولي معتدل
لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن "العدل والإحسان" يحركها فكر ديني، يمكن نعته بـ "الشمولي المعتدل"، بمعنى أن لها مواقف احترازية من النسيج الحزبي السياسي بكل مكوناته، لكنها في الوقت نفسه تضطر أحيانًا إلى التنسيق معها في معارك محددة وكذلك مع تعبيرات المجتمع المدني، التي يفترض أنها علمانية أو لا دينية؛ مع ملاحظة أن خصومتها أشد مع "العدالة والتنمية" الذي يشترك معها في المرجعية الدينية.

هناك معطى آخر، يفرض على الجماعة أن تراجع بعض قناعاتها وتبني مواقف براغماتية من دون انسلاخها عن عقيدتها الأصلية وهي مبرر وجودها، يتجلى في ما تعرفه الساحة الدينية من مخاض وتجاذب بين المذاهب.

وهناك سابقة حاضرة تتمثل في حزب "العدالة والتنمية"، الذي انتقل من نواة صلبة مؤمنة بالعنف الثوري لتغيير النظام، فإذا بها ركيزة من ركائز الاستقرار في المغرب.