إبتسام الحلبي من بيروت: في يوم من أيام يونيو 1906، وصل بابلو بيكاسو إلى قرية غوسول الكتالونية القديمة، التي تقع في مرتفعات جبال بيرينيه. بعد أن نصحه صديق له بزيارة هذا الملجأ الجبلي "الرائع"، المعروف بمهربّيه غير القانونيين. مفتون بما سمعه، أقنع بيكاسو عشيقته، فرناند اوليفييه الأنيقة، بالذهاب معه في رحلة شاقة وخطيرة إلى غوسول. ولدى وصولهما، نزلا في غرفة في الطابق الأول من الفندق الوحيد في القرية، هوستل كال تامبانادا. وكانت الخطة تمضية الصيف بكامله في رسم اللوحات والاستمتاع بملذّات الحياة البسيطة.&

ينسب مؤرخو الفن أهمية خاصة للوقت الذي أمضاه بيكاسو في غوسول، لأنّه هناك، في ذاك المنفى الاختياري الذي أبعده عن عالم الفن الباريسي المليء بالنميمة، غيّر فنه بشكل كبير وعميق. وبحلول العام 1906، كان بيكاسو قد بدأ يشعر بطعم النجاح في باريس، بؤرة الطليعية في ذاك الوقت. نال معرضه الأول في باريس في غاليريا للتاجر أمبرواز &فولارد في العام 1901 تعليقات إيجابية. إلا أن لوحاته &الكئيبة والعاطفية في الفترة الزرقاء والوردية، مهما بلغت روعتها، فقد بقيت مرتبطة بحركات الفن في القرن التاسع عشر مثل الرمزية.&

وعندما وصل إلى غوسول، تحرّك فن بيكاسو في اتجاه جديد مذهل وأكثر أصالة. بدت أعماله أكثر صرامة وبساطة وغرابة، وفي الوقت نفسه أكثر سرمدية. لمس بيكاسو هذا التغيير، وأظهره في نشوة من الإلهام. وخلال فترة إقامته في غوسول، التي استمرت حوالى 10 أسابيع، ازداد إنتاجه بشكل ملحوظ: ووفقا لكاتب سيرته، جون ريتشاردسون، أنتج سبع لوحات كبيرة، وعشرات من اللوحات المتوسطة الحجم، وعدداً لا يحصى من الرسومات واللوحات المائية، وغواش، والمنحوتات.

جماجم ومهربون

ما كان المحفز لهذا التحول والإثارة؟ هناك عدة احتمالات. فالكثير من أعمال بيكاسو في غوسول تظهر فيه أوليفييه على سبيل المثال، ما يشير إلى أن مشاعر الفنان البالغ من العمر 24 عامًا لحبيبته كانت قوية جداً آنذاك.

وهناك أيضا صداقته الجديدة مع صاحب فندق غوسول المراوغ، جوسيب فونديفيلا، وهو مهرب سابق حليق الرأس في العقد التاسع من العمر وأسنانه بيضاء لامعة، أثار إعجاب بيكاسو. بالتأكيد، بدأ مظهر فونديفيلا القاسي والزاهد يتسلل إلى فن بيكاسو، وبقي بمثابة بيضة القبان حتى وفاته (آخر رسم ذاتي له في العام 1972 يشبه الجمجمة).

ولكن، واجه بيكاسو شيئاً آخر أيضا في غوسول غيّر نهجه في الرسم: في كنيسة القرية، رأى تمثالاً خشبياً ملوناً لمريم العذراء (مادونا) يعود للقرن الثاني عشر، وجهه أبيض معبّر جداً رُسمت فيه عينان كبيرتان. &

واليوم، هذا التمثال الذي يبلغ ارتفاعه 77 سنتم، والذي يعتبر مثالاً رائعًا للفن الكتالوني الرومانسكي، هو جزء من مجموعة معروضة في المتحف الوطني للفنون في كتالونيا في برشلونة (MNAC)، ويؤدي حالياً دور البطولة في معرض "بيكاسو والفن الرومانسكي" هناك، يبرز حوالى 40 عملاً فنياً من الحداثة الإسبانية. يسلّط هذا المعرض الضوء على"المصاهرة" بين عمل بيكاسو وحيازات الفن الرومانسكي في القرون الوسطى، ومعظمها من الكنائس في جبال البيرينيه التي بنيت بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. نظرة واحدة إلى تمثال (مريم العذراء) مادونا في غوسول على سبيل المثال، تكشف أنه كان مصدر وحي لبيكاسو حين رسم لوحة المرأة التي تحمل أرغفة خبز على رأسها (Woman with Loaves1906). &

وبينما يدرك مؤرخو الفن أن بيكاسو كان يهتمّ بالفن الرومانسكي في السنوات التي سبقت اختراعه لـ "التكعيبية"، فهم يميلون إلى إغفال تأثيرها على تطوره، وبدلاً من ذلك يفضّلون التركيز على التأثيرات المعروفة بشكل أفضل مثل فن القبائل الأفريقية والنحت الايبيري القديم وسيزان.&

ويقول مدير MNAC بيبي سيرا إنّه على الرغم من البدائية المعروفة في أعمال بيكاسو، فهذا المعرض يبيّن بوضوح أن الفن الرومانسكي كان أيضا من أهم المصادر بالنسبة إليه، وأنّ &علاقة قوية جدًا تربط بيكاسو بالفن الرومانسكي. &

شريان حياة الإبداع

ومن المرجح أن بيكاسو بدأ يتعمّق في الفن الرومانسكي قبل أربع سنوات من رحلته إلى غوسول، عندما فتح معرض كبير للفن الرومانسكي والقوطي في برشلونة، بالتزامن مع تجدّد القومية الكتالونية. وبعد ما يزيد قليلا عن ثلاثة عقود، في العام 1934، حين أصبح بيكاسو من المشاهير الدوليين الذين يعيشون بشكل دائم في فرنسا، عاد الفنان إلى برشلونة لزيارة المتحف الوطني الجديد (المعروف آنذاك باسم متحف الفن في كتالونيا)، قبل وقت قصير من افتتاحه الرسمي .

وقامت إحدى الصحف بتغطية هذا الحدث الذي تبيّن أنّه آخر زيارة قام بها بيكاسو إلى وطنه - وبعد بروز فرانكو، لم يعد مجدداً إلى إسبانيا. وكتب المراسل: "بالانتقال من غرفة إلى أخرى، أمام تلك الأجزاء التي لا تضاهى من أوائل فترة الفن الكتالوني، أظهر بيكاسو إعجابه بالقوة والحدّة والمهارة التي فيها... وقال بدون تردد أنّ متحفنا الرومانسكي سيكون مكاناً فريداً من نوعه في العالم، ومورداً لا غنى عنه لمن يرغب في معرفة أصول الفن الغربي، ودرساً قيّماً للعصريين ".

وكما يكشف معرض MNAC، فبيكاسو جمع طوال حياته كتباً وبطاقات بريدية وصوراً فوتوغرافية، توثّق الفن الرومانسكي، ما يدل على اهتمامه الدائم في هذا الموضوع. ولم يكن هو الوحيد، فـ"خوان ميرو" مثلاً، وهو فنان عظيم آخر إسباني من المدرسة الحديثة، انجذب أيضاً إلى الفن الرومانسكي، فدرسه في صباه خلال نشأته في برشلونة. وعندما سئل كم يعني له هذا الفن، ربّت ميرو فوق أوردة ذراعه، مشيراً إلى أنّه يجري في شريان حياة إبداعه.&

ولعه بالبدائية يبرّر انجذابه للرومانسكية

إذاً، ما هو "الدرس الذي لا يقدر بثمن" الذي علّمه الفن الرومانسكي لكل من بيكاسو وميرو؟ وفقا لمدير MNAC، انجذب بيكاسو إلى "بساطة" الفن الرومانسي الكتالوني: "إنه فن ساذج وبدائي جدا. فهو مثلاً لا يستخدم المنظور، كما أنّه تخطيطي للغاية في تكوين الوجوه، وهذا أمر استقطب انتباه بيكاسو. وهو أيضا غني بالرموز - عيون وحرائق وأسماك - التي تمثل أشياء أخرى ".

وهناك رابط كبير آخر مع بيكاسو من حيث المواضيع: العنف، وأشلاء الأجسام، والجماجم، والصلب، والموت. إذاً، هناك روابط موضوعية وأسلوبية".&

أما اليزابيث كولينغ، الأستاذة فخرية في تاريخ الفن في جامعة أدنبره والقيّمة على معرض مستمر في غاليريا ناشيونال بورتريت في لندن اسمه بورتريهات بيكاسو Picasso Portraits، فهي توافق على أنّ أكثر جوانب جذبت بيكاسو في الفن الرومانسكي، كانت "التبسيط والحدة والنشاط، وحقيقة أنّه لم يكن يعتمد على الجمالية الطبيعة".&

وتماماً مثل سيرا، هي تعتقد ان مكوث بيكاسو في غوسول في العام 1906 كان "مهماً جدا"، لأنه كان "فترة الاستراحة التي منحته فرصة لاستيعاب مصادر اكتشفها حديثاً بشكل أكثر كمالاً، وتطوير أفكار ومواضيع خارج البيئة التنافسية لمدينة كبرى. وبما أنّ غوسول كانت منعزلة – غير متطورة – فلا بدّ من أنّها عززت ولعه الراسخ بالبدائية ".

بالفعل، إنّ اهتمام بيكاسو الأوسع في البدائية يساعد على تفسير افتتانه بالفن الرومانسكي. وتقول كولينغ: "البدائية موضوع ضخم". ولكن، على نطاق واسع جدا، كان الفنانون البدائيون يشعرون بأن "البدائية" كانت أكثر صدقاً ونقاء من الفن الغربي المتطور في فترة عصر النهضة وما بعد عصر النهضة. وهي تتضمّن في جوهره عنصراً قوياً معادياً للمذهبين الطبيعي والأكاديمي- لذلك كل ما كان يعتبر "معيارياً" في ذاك الوقت كان عرضة للرفض من قبل فناني المدرسة البدائية.

وبتعبير آخر، قدّم الفن الرومانسكي لبيكاسو أنموذج وحي، بينما كان يكافح لتفكيك وإعادة جمع التقليد العظيم للفن الغربي. وبحسب كولينغ، "لم يكن بيكاسو سلبياً مطلقاً في ما يتعلّق بمصادر الإلهام - كانت الاكتشافات الجديدة تثير حماسه، ولكن أعتقد أنّه كان ينجذب إلى مصدر جديد لأنه كان يتوافق مع شيء يهمّه أصلاً، وهذا يعني شيئا لعمله الجاري."&

أعدّت "إيلاف" هذا التقرير نقلاً عن "بي بي سي". المادة الأصلية منشورة على الرابط التالي:

http://www.bbc.com/culture/story/20170113-the-moment-that-changed-picasso