نصر المجالي: ناقشت ندوة لمنتدى الفكر العربي في العاصمة الأردنية عمّان، مسألة إصلاح أسس اختيار القيادات الأكاديمية، وأكد المشاركون على أن اختيار القيادات الأكاديمية لا ينفصل عن العملية الإصلاحية الشاملة وعن إدارة الندرة، وقال الأمين العام للمنتدى أن الخلل في المعايير والتطبيق ينعكس على الإنتاجية ويشكل هدراً للكفاءات وهجرة العقول.

وأكد ضيف الندوة التي عقدت مساء الأربعاء الدكتور فايز الخصاونة أن ممارسات ثقافة التناوب على المواقع الإدارية أضرت بالمسيرة الأكاديمية ولم تحقق أهدافها، وقال إن المواقع الإدارية تكليف وليست تشريفاً وغياب المعايير أدى إلى التهافت عليها.

وتناول الدكتور الخصاونة في محاضرته الأسس التي يعتمد عليها نجاح منظومة التعليم العالي ومنها الحصافة الإدارية والمهارات القيادية والقدرة على استنهاض طاقات الكوادر العاملة من أكاديميين وإداريين. 

وأوضح أن التشريعات الناظمة لحوكمة الجامعات الأردنية تستند على ثقافة التناوب المحدود زمنياً في كل مستويات الإدارة الجامعية، وأن هذه الثقافة انحرفت عن مقاصدها وأهدافها بسبب استغلال بعض الثغرات فيها وافتقار آليات التنفيذ لضوابط تحصنها من العبث بها. 

ودعا المحاضر إلى إصلاح هذه الثقافة لتصبح فاعلة في تصنيع قيادات أكاديمية ماهرة، ولإشاعة مبدأ تداول السلطة ليس فقط بين العاملين في الجامعات بل أيضا بين الطلبة ولتصبح الجامعة حاضنة للفكر الديموقراطي المستند على التشاركية والتعددية والمساءلة.

التدرج 

وبين الدكتور خصاونة أن التدرج في المواقع الإدارية الأكاديمية من رئيس قسم إلى عميد إلى نائب رئيس إلى رئيس يوفر فرصاً للتدريب على المهارات القيادية والإدارية، بصفتها مهارات مكتسبة بتسلسل يوازي مضامينها ونوعيتها بين رئيس القسم ورئيس الجامعة. وعليه يفترض أنها سوف تفرز مخزوناً زاخراً من قيادات الصف الثاني والثالث يعزز صلابة الهيكل التنظيمي ويكفل مستقبله. كما أن ثقافة التناوب تنسجم مع التوجه المجتمعي نحو الحوكمة المستندة على دور المؤسسات، ويساهم في إشاعة وتقبل فكرة تداول السلطة في الوسط الجامعي لتكون ممارسة يقتدى بها في مختلف جوانب الحياة المدنية في المجتمع بشكل عام. وبما أن مبدأ تداول السلطة من أهم مبادئ الفكر الديمقراطي التشاركي التعددي، فمن الضروري أن تصبح الجامعة الحاضنة الطبيعيية للتمكين الديمقراطي ليس فقط للعاملين بها بل أيضا لطلبتها.

طموحات قيادية

وأضاف أن ثقافة التناوب فتحت لبعض أعضاء هيئة التدريس باباً لتحقيق طموحاتهم القيادية، وهي طموحات مشروعة لما يرافقها من عوائد معنوية (مثل السلطة والشهرة وإشباع الشغف الذاتي والانفتاح على فرص أوسع)، ومادية (مثل الزيادة في الراتب والمنافع للمواقع العليا مثل السيارة والسائق ودرجة التأمين الصحي وغيرها)، لكن واقع الحال وفي غياب الدراسات الاستقصائية يقول إن التناوب حرم الأقسام الأكاديمية من الاستقرار الإداري، كما أصبح "الدور" للتناوب يتحدد على الأقدمية، وغيبت معايير الجدارة في التعيين أو معايير الأداء في التمديد لأكثر من سنة. أما من ناحية الأداء، فقد غلبت الاجتهادات الشخصية لرؤساء الأقسام على الرؤية التشاركية في إدارة الأقسام، وأصبحت إدارتها متقلبة بين سنة وأخرى، وأدى ذلك إلى تعطيل المبادرات الريادية والإبداعية في غالب الحالات.

تشريف ليس تكليفا

وقال المحاضر إن التهافت على المواقع الإدارية أصبح تشريفاً وليس تكليفاً، وقياس التميز في الاختصاص الأكاديمي بالمناصب وليس بالإنتاج والكفاءة والمهارات القيادية، مما ينطبق على بعضها القول إنها خبرة سنة واحدة مكررة كذا سنة. أما المهارات القيادية فلا يوجد أي مؤشر يدل على نوعية المكتسب منها.

ونوه الخصاونة إلى أن ثقافة التناوب كما طبقناها في الأردن خلال العقود الماضية لم تساهم في صنع القيادات الأكاديمية بالتدريب والتمكين، وجل ما أنجزته هو تزويد صانع القرار بمجموعة من أسماء قيادات الصف الثاني والثالث لها سجل إداري يقاس بعدد السنين والمواقع، ولا يسعف في اختيار قيادات الصف الأول. وهكذا وصلنا إلى طريق تائه، فمهما حاولنا تحسين آلية اختيار القيادات العليا وجعلها حيادية وموضوعية فإنها بالنهاية ستعتمد على معايير ومؤشرات أخرى غير التي تقيس المهارات القيادية، وكان بإمكاننا أن نصنع قيادات مدربة ونصقل مهاراتها، وخصوصاً للمواقع العليا، ولكن فوتنا تلك الفرصة الثمينة وأصبح اختيارنا لها تلزيما وليس تصنيعاً.

وأشار في هذا الصدد إلى بعض تجارب اختيار رؤساء الجامعات؛ موضحاً أن الإجراءات المتبعة حديثاً كانت متباينة رغم تقاربها الزمني، مما يؤشر إلى غياب رؤية جمعية تتوافق عليها كل الأطراف حول اختيار رئيس الجامعة. ومع ذلك، فإن تجربتنا خلال آخر بضع سنوات توفر لنا مجالاً لاستنباط عدد من العبر والدروس المستفادة منها، وخصوصا أنها شملت مسألة التجديد لرؤساء عاملين ومسألة تعيين رؤساء جدد، ولم تكن هناك معايير محددة لا للتجديد ولا للتعيين، واختلفت تلك المعايير باختلاف الحكومات ووزراء التعليم العالي والبحث العلمي.

كفاءات

وقال: إن مخزون قيادات الصف الثاني يشتمل على كفاءات متميزة، ولكنها كفاءات يصعب تمييزها عن بعضها لأن المعيار الأساس هو المواقع التي أشغلها وعدد سنين إشغالها دونما أي مؤشر على نوعية الأداء في أي من تلك المواقع. لذلك، فإنه مهما كانت إجراءات اختيار رئيس الجامعة موضوعية ونزيهة وشفافة فإنها تفترض خطأً توافر مؤشرات ومعايير قابلة للقياس والمفاضلة تسعف في عملية الاختيار.

وأشار خصاونة إلى نماذج من الممارسات الرشيدة لاختيار رؤساء الجامعات في العالم، ومن بينها الأخذ بالاعتبار عند استمرار الإداري الأكاديمي في موقعه أو التمديد له على حسن إدارته لوحدته، وعلى جودة مخرجاتها من حيث نوعية وأهلية الخريجين ورصانة الدراسات والبحوث التي تتم فيها (في وحدته) وأثرها في الساحة العلمية والفائدة التي تعود على المجتمع من توظيفها، ومكانة الكوادر العلمية في وحدته وتميزهم في حقول اختصاصاتهم.

وسائل غير موضوعية

كما أشار إلى أن التهافت على المواقع القيادية المتقدمة والفوز بإشغالها لا يضمن اختيار ذوي القدرات العالية من هذا المخزون، بل أصبح حصيلة وسائل غير موضوعية تستند على العلاقات الاجتماعية وعلى الانتهازية والواسطة أكثر من استنادها على مؤشرات موثقة عن مراكمة الممارسة الرشيدة والإنجاز والتطوير الذاتي. ودعا أ. د. خصاونة إلى إصلاح ثقافة التناوب على المواقع الإدارية الأكاديمية ووضع الضوابط الكفيلة بإحباط وسائل استغلالها وإغلاق طرق الالتفاف حول مقاصدها.

مداخلة أبو حمور 

وأدار اللقاء وشارك فيه الأمين العام لمنتدى الفكر العربي الدكتور محمد أبوحمور الذي أكد في كلمته أن اختيار القيادات الأكاديمية لا ينفصل عن مسار العملية الإصلاحية في المجتمع والدولة وعن إدارة الندرة، ويشكل أحد أهم مسارات إصلاح التعليم العالي لما له من أبعاد مجتمعية وثقافية وإدارية باعتبار الجامعة والبيئة الأكاديمية البيئة الأمثل لاختبار الممارسة الديمقراطية القائمة على المشاركة، والتعددية، والشفافية والنزاهة، والحوكمة الرشيدة، والمؤسسية، كما أن له بعداً اقتصادياً واستثمارياً في توجيه الطاقات البشرية المؤهلة والكفوءة الوجهة التي تخدم النهوض الاجتماعي.

وأشار د. أبوحمور إلى أن من أهم ظواهر التطبيق غير الصحي للتناوب ارتباطه من ناحية التجديد أو التعيين بمعايير غير مستقرة. ثم عدم استثمار مخزون قيادات الصف الثاني من الكفاءات بسبب غياب المعايير لقياس الأداء ونوعيته وتقييمه، بعيداً عن الشخصنة واعتماد تقييمات تستند إلى الانطباعات والعلاقات الشخصية وليس التقييم وفق معايير علمية، وأن هدر الكفاءات وتهميشها، وهجرة العقول أحياناً كثيرة، هي إحدى النتائج الخطيرة لاختلال مفاهيم ثقافة التناوب وتطبيقها، مما يطرح أسئلة كبيرة حول أثر ذلك على مخرجات التعليم من حيث أهلية الخريجين، وجودة الإنتاج العلمي، ومدى رفد المجتمع بعناصر النماء والتطوير وقدرات النهوض.

خلل المعايير

وأضاف د. أبوحمور أن أي خلل في المعايير والمنهجيات التطبيقية لاختيار القيادات الأكاديمية، والكيفية التي يتم بها النظر إلى المهارات القيادية وضمان الأكفأ للموقع الإداري الأكاديمي، ينعكس على الإنتاجية ويشكل حلقات ضعف وتراجع في البيئة الأكاديمية ودورها.

وفي هذا السياق أشار د. أبوحمور إلى أن منتدى الفكر العربي يعنى بموضوع إصلاح التعليم كجزء أساسي من أنشطته وكون هذا الموضوع يعتبر من أهم قضايا التنمية المستدامة في العالم العربي.