الرباط: أدخل المغرب في السنوات الأخيرة، سلسلة إصلاحات متتالية على المنظومة الإدارية، بغاية تقريبها من المواطن وجعلها في خدمته بأسرع وقت ممكن وبسلاسة، حيث ظهرت بالفعل بعض نتائجها الإيجابية وأحس بها المتعاملون مع الإدارة متجلية في تبسيط المساطر (الإجراءات) والتقليل من الأوراق التي لا معنى لها، كونها تكرر بعضها.

وعلى سبيل المثال، فإن الحصول على جواز السفر، كان إلى عهد قريب، يلزم المغربي إحضار سلة من الأوراق لتعبئة الملف؛ لكن الأمر تغيّر في الوقت الراهن وخاصة بعد اعتماد نظام بطاقة الهوية الالكترونية التي تصدرها السلطات الأمنية، قطعًا لأية محاولة غش أو تزوير في صدقية الوثائق.

ورغم هذا الجهد الذي صار ملموسًا في بعض المصالح الإدارية وخاصة تلك التي يقبل عليها المواطنون بكثافة، فإن نسبة عالية من المغاربة، وفق استطلاع "إيلاف المغرب" تجاوزت الثمانين في المائة، تعتقد أن الإدارة ما زالت محكومة بأساليب البيروقراطية العتيقة والبطء الذي لا يحتمل، وما يترتب عن كل ذلك من ضياع الوقت وكثرة الطواف بين المصالح التي يغيب عنها في بعض الأحيان رؤساؤها، فيطول انتظار المتعاملين مع الإدارة التي تتشدد معهم، بينما تبيح لمستخدميها ارتكاب أخطاء وعيوب في تحرير الوثائق المهمة.

لكن الآثار السلبية الناتجة عن علل وأمراض الإدارة المغربية، تتعدى المعاملات البسيطة للمواطنين، بل إنها تلحق الضرر الفادح بالاقتصاد الوطني كونها تنفر المستثمرين من نقل أموالهم إلى المغرب للإسهام في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني.

ويواجه المستثمرون سواء كانوا من الأجانب أو المغاربة، عدة صعوبات وعراقيل عبثية، تحول من دون إقامة مشروع يخلق فرص العمل ويقوي النسيج الاقتصادي.

ولا يقف الحرص على الدقة والفحص السليم للوثائق والبيانات السليمة التي يتطلبها إحداث المشاريع، بل تحركها في الغالب دوافع تتنافى مع مبادئ الشفافية والنزاهة، التي طالما أكدت عليها السلطات منذ أن ادخل العاهل المغربي في بدايات حكمه مصطلح "إدارة القرب" وإحداث شباك وحيد لدى المديريات الجهوية للاستثمار، بغاية اختصار الوقت وتيسير الإجراءات للمستثمرين.

وسيكون من باب التحامل الزعم بأن صفحة الإدارة المغربية بالغة السوء والسواد، فالمؤكد أن عددًا من القطاعات الحكومية طورت أساليب عملها إلى حد كبير وأصبح المغربي يحس أنه في دولة حديثة حقًا تعامل قاصدها بلباقة وإصغاء لرغباته وانتظاراته، مع ما يلزم من صبر وتحمل لا سيما حينما يتعلق الأمر بشرح &وتبسيط المساطر الإدارية المعقدة التي تفترض إلمام المواطنين بالجوانب القانونية فيها وبما يصح ولا يجوز طلبه من الإدارة لأنه يخالف القانون من جهة، ويعكس جهل المتعامل بالحقوق والواجبات.

ويمكن القول في هذا الصدد إن "الثورة الرقمية" خلخلت العادات السيئة التي الفتها الإدارة المغربية الموروثة عن العهود السابقة، على اعتبار أنها من مخلفات الاستعمار الفرنسي، باعتباره واضع أسسها الحديثة، من دون أن تصلح جذريًا بعد الاستقلال، باستكمال النواقص المعرقلة لسيرها الاعتيادي.

وحينما انتبهت الحكومات المغربية المتعاقبة إلى أمراض الإدارة المزمنة، باشرت إصلاحات جزئية وشكلية لم تمس عمق المشكل ولم تقدر آثاره السلبية، مكتفية على سبيل المثال بإجراءات ترقيع من قبيل تغيير لغوي في اسم الوزارة الوصية على القطاع، حيث أضيفت مهمة الإصلاح الإداري إلى المهام التقليدية لوزارة الوظيفة العمومية.

ومنذ سنوات تغير الاسم تمامًا دون المسمى لدرجة أن المغاربة، تساءلوا في ذلك الحين عن المقصود بـ" تحديث قطاعات الدولة"، وهي التسمية الجديدة التي استقر عليها ذلك المرفق الإداري الذي كان تابعًا في وقت من الأوقات إلى الأمانة العامة للحكومة باعتبارها المشرفة على تدقيق التشريعات والمراسيم وملاءمتها للقانون الأسمى.

ومن دون الإطالة في استعراض الخلفيات التاريخية، فإن الأساسي هنا، التأمل في النتيجة التي أفرزها تصويت متصفحي "إيلاف المغرب" لفهم حقيقة وخلفيات موقفهم المنتقد حيال إدارة بلادهم، ولماذا يعتبرونها بتلك الكثافة القاسية، معرقلاً للإصلاح وعائقاً في وجه التنمية الاقتصادية؛ على الرغم من الإصلاحات التي أمرت بها السلطات العليا التي تتوصل بتظلمات وشكاوى من الإهمال الإداري الذي يؤدي إلى ضياع المصالح أو تأخيرها على الأقل.

وكان لافتًا ومفاجئًا، أن الملك محمد السادس بعد أن نفذ صبره، اضطر إلى توجيه النقد واللوم الشديد علانية إلى الإدارة المغربية في الخارج، جراء تعاطيها السيئ مع مصالح الجاليات الموجودة في الغربة، الأمر الذي جعل وزارة الخارجية، بأمر من الملك، تستدعي عدداً من قناصل المملكة في الخارج، عقابًا لهم على تقصيرهم في القيام بعملهم الإداري على الوجه الأمثل.

ويمكن القول إن ما يبرر هيمنة النظرة السلبية للإدارة، من قبل متصفحي "إيلاف المغرب" شعورهم أنها ليست في خدمتهم كما يتمنون، وبالتالي انعدمت بين الطرفين كونها متجذرة ومتوارثة بين الأجيال، لم تستطع التكنولوجيا محوها من الأذهان.

وما زالت بالمغرب فئات اجتماعية تقرن التعامل مع الإدارة بالرشوة والمحسوبية والزبونية والتدخلات، يساورها اعتقاد أنها إن قصدت الإدارة فإنها ولا شك معرضة إما لسوء المعاملة أو طلب ما يسميه المصريون "بقشيش".

ومن المفارقات أيضا أن المغرب، عزز ترسانته القانونية لمكافحة الرشوة والشطط في استعمال السلطة؛ ضمنت للمواطنين حقوقهم في التقاضي والتظلم والاطلاع على المعلومات التي تهمهم، فإن النظرة السلبية ما زالت مهيمنة على تقييمهم لإدارة بلادهم

وفي هذا السياق، تنبغي الإشارة إلى أن السلطات الحكومية المعنية، قصرت من جانبها في الشرح والتوعية بالتشريعات الجديدة التي تصب في خدمة المواطن بالكيفية المبتغاة، كما يجهل كثير من الناس أن هناك هيئات للوساطة، يمكن اللجوء إليها مثل مؤسسة "الوسيط" أو محامي الشعب كما يسمى في الديمقراطيات الحديثة؛ فضلاً عن وجود الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة، ونظيرتها التي تسهر على احترام الشفافية المنافسة لكسب الصفقات العمومية.

وساهمت هيئات الرقابة المحدثة وبعضها يتمتع بصفة دستورية، في ردع الممارسات المشينة التي طالما نسبت للقطاع الخاص ولعالم المال والأعمال، أبرز مظاهرها الرشوة والغش في إنجاز المشاريع.

والحقيقة أن ما يعكسه هذا الاستطلاع (83,33% نعم /14,29 لا/ و2,38% لا أدري)، يتجاوز طبيعة الحكم على الإدارة المغربية، ليلامس جوهر المشكل الذي يباعد بين المغاربة وإدارتهم وعمق فقدان الثقة بين الجانبين.

وهذا الجوهر يتجلى في أن المغاربة أو على الأقل المشاركين في استطلاع "إيلاف المغرب" لا يفرقون بين الإدارة والسلطة بمعناها الزجري؛ وبالتالي ينتابهم نفس الإحساس، سواء وهم في مخفر الشرطة أو أمام المحاكم أو في وضعية انتظار لمسؤول إداري أو حكومي. كل هؤلاء، عناصر منظومة متداخلة متضامنة في ما بينها، طابعها التسلط ومظهرها الاستخفاف بمصالح المواطنين.

فلا غرابة إذن أن يرتفع معدل التصويت العقابي على الإدارة ليتجاوز نسبة الثمانين في المائة. صحيح أنه حكم مبالغ فيه، لا ينطبق حتمًا على كل المرافق الإدارية المغربية، لكنه يشير كما أسلفنا، إلى غياب حملات التوعية وتبصير الناس بحقوقهم وواجباتهم بدل الإجراءات الفوقية التي يصوغها بيروقراطيون يحصنون بها أنفسهم.

إذا تحققت "ثورة الإصلاح الإداري "سيتسنى عقد صلح دائم بين المغاربة وإدارتهم. هذا ما نطق به سهم الاستطلاع، والله أعلم.