«إيلاف» من دبي: ثمة من يقول إن 16 مارس 1977 هو أول يوم في مسار عربي مختلف، وهو أول يوم في مسيرة تدهور القضية الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، إذ شهد اغتيال كمال جنبلاط، الزعيم السياسي والكاتب والمفكر، الذي ناهض الاستعمار والاحتلال والطائفية والفساد، ووضع نفسه في خدمة القضية الفلسطينية. 

عشية ذكرى اغتياله الأربعين، بثت قناة «الجزيرة» تقريرًا مفصلًا عن قتل كمال جنبلاط، ضمن برنامجها «الصندوق الأسود»، تتبع القائمون عليه خیوط الجریمة التي عملت أطراف عدة على طمس معالمها، خصوصًا أن اغتيال كمال جنبلاط حصل في نقطة مفصلية في الحرب الأهلية اللبنانية، وتقاطعت فيه مصلحة أطراف عديدين.

اغتيال كمال جنبلاط حصل في نقطة مفصلية في الحرب الأهلية اللبنانية

 

شبهات

يقول العميد السابق قي قوى الأمن الداخلي اللبناني وقائد الشرطة القضائية السابق عصام أبو زكي، إن اغتيال كمال جنبلاط سياسي، فيما وصف كريم بقرادوني، الرئيس السابق لحزب الكتائب اللبنانية اغتيال كمال جنبلاط بأنه أول اغتيال سياسي في لبنان.

استعرض التقرير أخصام كمال جنبلاط السياسيين، الذين يمكن أن يوجه إليهم الاغتيال، كالقيادات السياسية للطائفة المارونية، خصوصًا أن مسلحيها قتلوا ليندا جنبلاط، شقيقة كمال جنبلاط، وإسرائيل التي ساءها دعم كمال جنبلاط لما كان يعرف بـ«المقاومة الفلسطينية»، ما جعله خصمها الأول في لبنان وهدفًا دائمًا لها، كما أوضح توفيق سلطان، القيادي السابق في الحركة الوطنية، وهي حاولت اغتياله يومًا حين كان في زورق في البحر.

إلا أن الشكوك كلها حامت حول مسؤولية النظام السوري برئاسة حافظ الأسد عن اغتيال كمال جنبلاط، إذ بدأ الخلاف بين الأسد وكمال جنبلاط مع تقدم «الحركة الوطنية» والفصائل الفلسطينية آنذاك إلى معاقل الأحزاب المارونية، ما جعل قادة الموارنة يستنجدون بالأسد. وهو رفض التدخل السوري في لبنان، لكن هذا التدخل حصل، وبدأ تبادل الاتهامات العلنية. 

بدأ الخلاف بين الأسد وجنبلاط مع تقدم الفصائل الفلسطينية آنذاك إلى معاقل الأحزاب المارونية

 

القرار الظني

توصل فريق «الصندوق الأسود» إلى القرار الظني الأول الذي أعلنه القاضي حسن القواص، الذي تولى التحقيق في قضية اغتيال كمال جنبلاط ومرافقيه فوزي أبو شديد وحافظ الغصيني، وكاد يدفع حياته ثمنًا لذلك. وهذا القرار يظهر للمرة الاولى في القضية، وفيه ترجيح خطة خطف جنبلاط ومرافقيه، ثم مع إبدائهم المقاومة تغيّرت الخطة وتمت تصفيتهم. فسيارة «بونتياك فايربرد» بلوحة عراقية تجاوزت سيارة كمال جنبلاط (مرسيدس سوداء، رقم لوحتها 5888) في ساحة بعقلين في منطقة الشوف، ثم قطعت عليها الطريق، وترجل منها مسلحان أجبرا أبو شديد والغصيني على ركوب البونتياك ثم توليا قيادة سيارة كمال جنبلاط، وبقي هو في مقعده. وبعد مئات الأمتار، ترجلا من السيارة، وقادا المرافقين إلى وسط الطريق وقتلاهما، ثم أطلقا النار على كمال جنبلاط وأردياه في مكانه. ويؤكد أبو زكي نية خطف جنبلاط، لكن لِمَ غيّر الجناة رأيهم؟

نظرية أبو زكي أن كمال جنبلاط حاول حرف سيارة المرسيدس من خلال مقودها، فاصطدمت بها سيارة البونتياك من الخلف. الوثائق والصور تدعم هذه النظرية. كما يقول القرار الظني أن الكشف الطبي أكد أن موت جنبلاط نجم من تهشم جمجمته، أي أن رصاصة أطلقت في رأسه من مسافة قريبة. السيناريو الافتراضي الذي توصل إليه فريق الصندوق الأسود أن أحد الجناة أطلق الرصاص على رأس جنبلاط من الخلف حين حاول أن يحرف سيارته عن مسارها، وبعدها أطلقوا عليه رشقًا ناريًا من خارج السيارة.

وبحسب شاهد عيان، وردت إفادته في التحقيقات، رفض الظهور أمام الكاميرا، كان المسلحون في البونتياك ثم رآهم ينقلون شخصًا يرتدي قميصًا أبيض ثم يقتلونه بالرصاص في صدره، وشاهد بعدها سيارة كمال جنبلاط متوقفة إلى جانب الطريق، أي أن المرافقين قتلا بعد مقتل كمال جنبلاط، وليس قبله. 

ترجيح خطة خطف جنبلاط ومرافقيه، ثم مع إبدائهم المقاومة تغيّرت الخطة وتمت تصفيتهم

 

أسماء وهمية

فرّ المسلحون بسيارة البونتياك، لكن شاء القدر أن تتعطل السيارة، وأن يتركوها مخلفين وراءهم أدلة كثيرة. احتفظ القضاء اللبناني بهذه السيارة فترة وجيزة ثم اختفت تمامًا. ندر وجود هذه السيارة، وكانت بنية اللون، في لبنان، لذا كان يسهل التعرف عليها. رآها شاهد عيان بجانب حاجز للقوات السورية في دوار بعقلين (الشوف)، ورآها الرقيب محمد الحسن في قوى الأمن في بيروت تسير عكس السير، وعندما استوقفها، عرّف من فيها على أنفسهم بأنهم من قوات «الردع» السوري، وقال الشاهد أبو طالب، صاحب محل للزهور في بيروت، إنه شاهدها أمام فندق موزارت في رأس بيروت قبل أيام من الجريمة. في ذلك الحين، كان هذا الفندق أشبه بمقر للقوات السورية العاملة في بيروت، بعدما استأجره سوري من صاحبه، المدعو نسيب الريس، في عام 1975. وكان بجانب هذا الفندق فندق «لورنزو» الذي ما عاد موجودًا اليوم. لكن بحسب محاضر التحقيقات، وصل سائق البونتياك إلى فندق لورنزو في 11 مارس 1977، وكان اسمه حسين جعفر كاظم جواد، من مواليد بغداد (1947). وبقي في الفندق حتى صبيحة يوم الاغتيال. ووصل معه مدني آخر هو السوري ساهر محمود الجبيلي. كما وصل إلى الفندق عسكريان رفضا توثيق إسميهما، وقالا إنهما من قوات الردع السورية.

ما وجد فريق «الصندوق الأسود» أثرًا لحسين جواد في السجلات العراقية، ما يرجح أن جواز سفره مزور. أما ساهر الجبيلي فقد علم الفريق إنه لم يكن عسكريًا في الجيش، بل ملحقًا بأحد الأجهزة الأمنية السورية، أي كان في الاستخبارات. 

تقول مجلة لبنانية ذكرها التقرير إنها قابلت صاحب اللوحة التي كانت على سيارة البونتياك، وهو عراقي أفاد بأن اللوحة انتزعت من سيارته حين كان في زيارة إلى دمشق. 

فرّ المسلحون بسيارة البونتياك، لكن شاء القدر أن تتعطل السيارة، وأن يتركوها مخلفين وراءهم أدلة كثيرة

 

لغز البونتياك

بعد اتصالات مع شركة جنرال موتورز تبعًا لمحضر التحقيق، الذي وثّق رقم محرك السيارة ورقم هيكلها، فإن البونتياك شحنت من مرفأ نيويورك الأميركي إلى لبنان عبر مرفأ بيروت. وحصل فريق «الصندوق الأسود» على وثيقة صادرة عن الجمارك اللبنانية تفيد بضبط متهميْن في مرفأ بيروت حاولا تهريب مخدرات في البونتياك، وتشير في أسفلها إلى إفادة بتوقيع آمر قوات الردع العربية في مرفأ بيروت الملازم أول أحمد سكابا يقر فيها باستلام المتهمين والمخدرات والبونتياك من ضابط الجمارك. ويمر اسم أحمد سكابا ثانية في إضبارة إصلاح السيارة في محطة في منطقة الروشة، حين أحضرها لإصلاحها، وكان يرتدي ثيابه العسكرية. وهذه كلها أدلة على أن القوات السورية وضعت يدها على السيارة. 

بعد اغتيال كمال جنبلاط ومرافقيه وفرار الجناة بالبونتياك وتوقفها، أوقفوا سيارة كان يقودها سليم الحداد، وأجبروه على نقلهم. رفض الحداد التكلم في الوثائقي، لكن إفادته الأولى تؤكد أنه نقل الجناة، وحين توقفوا عند أحد حواجز "الردع" السوري، أبرز أحد المسلحين بطاقة، وقال "جيش"، فأدى جنود الحاجز التحية له. أوصلهم إلى مستديرة الصالومي (بيروت) حيث تركوه وصعدوا إلى مبنى، كان مقرًا للمخابرات السورية. يقول أبو زكي إنه كان مكتب ابراهيم الحويجي، «وقالوا للحداد ستسمع خبرًا، إذا تكلمته تلحق به». في ذلك العام، كان الحويجي برتبة نقيب، ورقي ووصل إلى رتبة لواء، وأصبح قائد جهاز المخابرات الجوية، أقوى الأجهزة الأمنية السورية وأكثرها نفوذًا، نظرًا لاستقلاليته عن مؤسسات الدولة وتبعيته المباشرة لحافظ الأسد، وهو من الدائرة الأمنية المغلقة للنظام.

قال ابو زكي إنه يشك في تورط رفعت الأسد في الاغتيال، لكن بقردوني استبعد ذلك. قال: «رفعت لم تكن لديه إمكانيات في منطقة الشوف، وإنما في شمال لبنان».

وفي تسجيل سري حصل عليه فريق العمل، لم يكتفِ رفعت الأسد بنفي مسؤوليته عن اغتيال جنبلاط، بل أشار إلى إبراهيم الحويجي، واتهمه مباشرة قائلًا إن ثمة 100 شاهد على هذه الحادثة. أما وليد جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، فيقول: «تبادل الاتهامات بين أركان النظام، سواء رفعت الأسد أو غيره، يعني شيئًا واحدًا: الذي اغتال في النهاية هو النظام».

 

حلقة الصندوق الأسود عن مقتل كمال جنبلاط