الرباط: رفضت نسبة كبيرة وعالية من المغاربة، قاربت التسعين في المائة، قبول فكرة أن تصبح اللغة العامية الدارجة، وسيلة لنقل المعارف وإيصالها إلى المتعلمين المغاربة في المدارس، فيما أيد الفكرة اقل من عشرة في المائة.

يذكر، في هذا السياق، أن المغرب شهد في غضون السنوات القريبة الماضية، نقاشًا غريبًا، لم يفجره مفكرون وعلماء اللغة أو مشتغلون بقضايا التربية والتعليم، من يمكن وصفهم بالمعنيين مباشرة بالموضوع، على اعتبار أنهم جربوا ولاحظوا وحصروا الصعوبات واقترحوا بدائل العلاج الممكنة.

إن الذي أثار المشكل وعرضه في ساحة النقاش العمومي، ناشط جمعوي معروف بحماسته في الدفاع عن تبني إجراءات جذرية حتى ولو صدمت المجتمع، بمبرر أنها لا تقبل التأجيل ما دامت الغاية، في نظره، تحديث المجتمع بالكيفية التي يعتقد صاحب الدعوة أنها الموصلة إلى التقدم.

غني عن القول إن الجدل احتدم بين أنصار العامية والفصحى وخصومها في العالم العربي منذ عقود، وبالتالي فهو ليس جديداً. ألقى كل معسكر وعلى مدى عقود، بحججه ودلائله دون أن ينتصر الراغبون في كسر شوكة الفصحى، ولا سكت الخصوم عن مطالبهم، مع التذكير أن النقاش انحصر ماضيًا في المجال الأدبي والإبداعي والفني.

فقد تساءل حينئذ نقاد الأدب ومنتجوه عن معنى الصدق والواقعية في الأنواع الأدبية. رأت طائفة منهم أن الصدق الفني في الأدب يقتضي أن يكون الحوار في الرواية أو المسرحية، موزعاً بين الفصحى والعامية. فإذا كان المتكلم في نص أدبي فلاحاً أو عاملاً، فلا يصح أن ينطق بكلمات في الحوار مأخوذة من المعجم الفصيح، لأنه لا يفهم معانيها؛ وفي المقابل أباحوا للشخصية المثقفة أن تتكلم كيفما شاءت.

ولم تتجرأ طائفة من الذين شاركوا في هذا النقاش (مناصرو العامية) الذي روجه مثقفو العهد الناصري منتصف الستينيات،على المناداة باستبدال العربية الفصيحة بما دونها في مرحلة من مراحل التعليم، لأسباب عملية وتربوية واجتماعية يضيق المجال هنا لتفصيل القول فيها.&

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا النقاش الذي جرى أساسًا في بلدان المشرق العربي وتحديدًا في مصر، خلال عقد ستينيات القرن الماضي تزامن مع انتشار تيار " الواقعية الاشتراكية" في الأدب، إذ كان نقاشًا خصبًا ونافعًا للحياة الثقافية حفز من جانب آخر المشتغلين باللغة على البحث عن سبل تذليل صعوباتها وتطويعها ليتمكن المتلقي من إدراك واستيعاب ما يلقن له في المدرسة.

وكما حدث مع دعوات مريبة وغريبة قبل ذلك، نادت جهارًا باستبدال الحرف العربي باللاتيني وهجر ظاهرة الإعراب في اللغة العربية، جوبهت برفض وتخوين لأصحاب الأطروحة الغريبة، حد الشك في اتهامهم بخدمة الغرب المعادي للعرب والمسلمين، مستهدفًا القضاء على لغتهم وتراث حضارتهم وما يربطهم؛ ما قوى معسكر المحافظين والتقليديين في الجبهات الفكرية. وهذه معضلة أخرى.

برد فعل مماثل تقريبًا، قوبلت الدعوة التي حمل مشعلها الناشط المغربي نور الدين عيوش، بمقاومة من أطياف فكرية وجمعوية ونقابية واسعة، اتفقت على أنه لا يمكن حل مشكلة بمشاكل.

والمؤكد أن مغاربة كثيرين، شاعرون ومقرون بوجود مشكلة التواصل في المدرسة المغربية وخاصة في المراحل الأولى، حيث يواجه المتعلم مستوى لغويًا غير متعود عليه خاصة وأنه يلقن بواسطته مفاهيم ومعاني تكاد تكون تجريدية تظل عائمة في ذهنه وهو الذي يسمع في محيطه المجتمعي والأسري انواعًا من اللهجات الممزوجة بالفرنسية، فضلاً عن الأمازيغية.

لماذا رفضت العينة التي شاركت في استطلاع “إيلاف المغرب" مقولة إدخال الدارجة إلى الحرم المدرسي؟

قبل محاولة الإجابة &باستنطاق وقراءة مواقف الرافضين والمؤيدين، وهم قلة قليلة كما أسلفنا؛ لا بد من التأكيد على أن الدارجة حاضرة في المدرسة المغربية في سائر الأطوار والمراحل بما فيها الجامعي، مستعملة بين المدرسين حتى في مدرجات كليات الآداب، وهي منتشرة في المجتمع ، تتحدث بها العامة والخاصة، في المدن &والأرياف ووسائل الإعلام ؛ غير أنها عامية خاصة قريبة جدًا من الفصحى ، ما يفرق بينهما هو ظاهرة الإعراب، حيث يعتمد المتكلمون بالعامية &أساسًا على المعجم العربي الفصيح مع ميل إلى تسكين أواخر الكلمات &واعتماد تقنيات في التواصل بتلك الأداة اللغوية. نشأت وتطورت ( التقنيات)مع استعمال العامية في المجتمعات العربية التي تعاني من ازدواجية أو تعدد لغوي، وضمنها المغرب.

ويبدو أن المستطلعين من خلال إجاباتهم، لا يمانعون قطعاً في أن يجرى نقاش بين المختصين في علوم اللغة والتربية والسوسيولوجيا وتكنولوجيا التعليم، بخصوص أنجع الوسائل الميسرة للمتعلم والمحفزة له على مشاركة تفاعلية في العملية التعليمية.

المشكلة كما يتبين من نسبة العينة الرافضة لطرح مغلوط بخصوص لغة التعليم؛ تكمن المشكلة أو جزء كبير منها في الخلفيات والدوافع والأجندات التي تدفع غير المِؤهلين إلى الخوض في أمر شائك، لا يمكن أن يحسم فيه رأي أو نظرية مهما كانت قوة إغرائها؛ كون المسألة تهم شعبًا وأجيالاً. دون أن يعني ذلك القفز على المشكل وتجاهله وتأجيله.

والقضية اللغوية التي أثارها في المغرب، الناشط المجتمعي عيوش لم ينجح فيها لأسباب موضوعية: هو ليس عالم لغة ولا مشتغلاً بالتدريس كما أن مبادرته اتسمت بالفردية، صاحبها نوع من الشعبوية المستفزة للرأي والمشاعر؛ بدليل أن" عمارة الدارجة" التي شيدها " عيوش " سرعان ما تهاوت وتداعت أركانها، أمام ضربات معول مفكر عميق من طراز عبد الله العروي ، الذي &بين &لمحاوره، في مناظرة تلفزيونية، وبصورة مؤدبة أن ليس &لديه ما يكفي من العلم والإحاطة بتجارب الأمم الأخرى التي واجهت مشكلة مماثلة يمكن الاستئناس بها. مواجهة واحدة بين الإثنين، أمام مشاهدي القناة التلفزيونية الثانية، كانت كافية لإظهار صاحب الدعوة منهزمًا بالضربات العلمية والأهداف الفكرية. ومنذ تلك الليلة، هوت "الدعوة" إلى الأسفل، وتحولت إلى موضوع للتندر والسخرية.

مع ذلك يجب أن تحسب للرجل مزية، أنه طرح في ساحة النقاش العمومي، موضوعًا يتفق كثيرون على معالجته بتأنٍ وهدوء. إشكال كبير سبقه إليه كثيرون، لكنه لم يستفد من نتائج محاولاتهم.