"إيلاف" من الرياض: لم يكن الفرار سهلاً بالنسبة للمقاتلين العرب في أفغانستان، بعد بدء الحرب الأميركية على هذا البلد في أكتوبر 2001، بعد شهر من الهجمات التي استهدفت برجي التجارة في نيويورك ومقر وزارة الدفاع في فرجينا، فالكثير منهم قتلوا أو "بيعوا" إلى وكالة المخابرات المركزية الأميركية "السي آي إيه".

ويتذكر سعودي اختار فهد اسمًا مستعاراً له خلال حديث مع "إيلاف"، أنه ذهب إلى أفغانستان للمرة الأولى في 1999 وكان حينها في الثامنة عشرة من عمره.

ويقول: «البداية حينما سافرت بنصيحة من رجل دين من منطقة القصيم السعودية إلى باكستاني مسن يقيم في قطر، حيث قضيت أيامًا عدة عند الأخير، ومن ثم أرسلني الأخير إلى صديق له في بيشاور في باكستان، وهو من ساعدني على الوصول إلى قندهار، مقر حركة طالبان التي كانت تحكم حينها أفغانستان».

يقول فهد (36 عاماً): «قضيت ثلاثة أشهر في تدريبات عسكرية شديدة القسوة مع أشخاص من جنسيات مختلفة بعضها عربية في قاعدة بالقرب من قندهار، وكان طعامنا خلال هذه الفترة الشاي والمرق الأفغاني، وخسر بعضنا الكثير من أوزانهم، وأصيبوا بإسهال حاد».

ويتذكر أن «أسامة بن لادن زارنا في آخر يوم تدريب وصلّى معنا المغرب بلا أي حراسة تذكر، ثم ألقى خطبة كانت خالية من السياسة وتركز على العبادات». يضيف: «كانت شخصيته هادئة بشكل لافت، وبالكاد يُسمع صوته حينما يتحدث».

يتابع: «قضيت بعدها عدة أشهر من دون فعل شيء يذكر، وكنت أقضي وقتي في بيت الضيافة حيث أقيم، لذا قررت العودة إلى السعودية لزيارة والدتي وكان ذلك في منتصف عام 2000».

وأشار إلى أنه في مطلع 2001 عاد إلى إفغانستان، حيث أقام في بيت الضيافة الخاص بالسعوديين في قندهار معقل حركة طالبان.

ويلفت إلى أنه قبل يوم من وقوع هجمات سبتمبر «شاعت أخبار في قندهار حول حدث مهم سيقع، وطلب بعض قادتنا منا الاستماع إلى المذياع». يتابع: «كان الوقت الثلاثاء ليلاً بتوقيت أفغانستان، حينما بدأنا نسمع عبر المذياع أخبار الهجمات التي استهدفت نيويورك وواشنطن». يستذكر فهد أجواء الفرح التي طغت على الجميع: «كان الكثير منا سعداء، ورأينا في الأمر انتقاماً من أميركا التي دمرت سياستها العالم الإسلامي». إلا أن فهد الذي ما زال متمسكاً بتدينه يقول: «لا أجد تفسيرًا لهذه السعادة التي كانت تناقض ما كنا نؤمن به، أو على الأقل الكثير من المقاتلين العرب، إذ أننا كنا نرى حرمة قتل المدنيين حتى غير المسلمين منهم، بعكس المنتمين لجماعة الجهادة والهجرة المصرية».

يقول فهد إن «الأحوال انقلبت رأساً على عقب بعد بدء القصف الأميركي في أكتوبر وبالتزامن مع زحف تحالف الشمالي الأفغاني المدعوم من واشنطن والمعارض لطالبان على العاصمة كابول».
ويروي: «صار الأفغان، أخوة الأمس، أعداءً محتملين، فالكثير منهم صاروا جواسيس للأميركيين ويزرعون شرائح إلكترونية في تجمعات العرب لتقصفها الطائرات». ولا ينسى فهد «أولئك العرب الذين رأيتهم يبكون مع اشتداد الحرب من شدة الخوف، فهم جاؤوا إلى أفغانستان بزعم رغبتهم بالجهاد، لكنهم كانوا يقضون وقتهم بتعاطي المخدرات». 

ويكشف فهد أنه قبل أيام من سقوط قندهار في 13 نوفمبر 2001 «وصلنا أمر من قيادة طالبان برمي السلاح ومغادرة البلاد». يضيف: «جاء إلي ابن عمي في بيت الضيافة وأخذ جواز سفره وغادر مع المجموعة التي قُتل المئات منهم - وهو أحدهم - لاحقاً خلال رمضان من ذلك العام، في الهجوم الذي شنته قوات عبد الرشيد دستم المدعومة من سلاح الجو الأميركي على قلعة جاجني».

يضيف فهد: «حُشرت مع العشرات من العرب في صندوق سيارة نصف نقل يقودها أفغاني، وكنا نقف على أقدامنا على مدى رحلة استمرت أربعة أيام عبر الجبال وأجسادنا متراصة بعضها ببعض، وكنا نسير في الليل والسيارة بلا ضوء ونختبئ في النهار خشية القصف الأميركي.
يتابع: «كنا نمر على مواقع تعرضت إلى القصف الأميركي للتو، ونرى الكثير من الجثث المنتشرة فيها». ويوضح: "كانت ساعات الليل في نوفمبر طويلة، وكنا خلال المسير يرفض طلبنا لقضاء الحاجة، لذا كان الكثير أمامنا يتبول على ملابسه». يضيف: «وصلنا إلى كراتشي في باكستان، وأودعت في منزل صغير هناك مع عدد من العرب، حيث أمضينا شهرين وحلق كل منا لحيته، وكنا نتحدث خلالها مع بعضنا البعض همساً ولا نستخدم الهاتف أبداً».

يتابع الشاب الثلاثيني: «كان العربي صيد يستطيع ضابط في الاستخبارات الباكستانية بيعه بآلاف الدولارات للأميركيين، لذا كنا نلتزم الحذر الشديد خصوصاً في ظل انتشار المئات من الجواسيس في المدينة».
غادر بعدها فهد باكستان مع أصدقائه السعوديين عبر مطار إسلام آباد إلى بلد آسيوي، وقضى ثلاثة أشهر متنقلاً بين بلد آسيوي وآخر إلى أن استعاد قوته. وقبل العودة الى الرياض، حرص فهد على شراء ملابس تشبه تلك التي يلبسها المراهقون «وابتعت مسجلاً وسماعات وأشرطة أغانٍ، وحرصت أن تكون الموسيقى مسموعة طوال الرحلة لمن هو حولي، بغرض التمويه».

لا شعور يضاهي فرحة فهد العارمة حين ختم موظف الجوازات في مطار الملك خالد في الرياض جواز سفره وسمح له بالدخول، حيث كان في استقباله أحد أصدقائه.

لم تستمر الفرحة طويلاً، فمع اندلاع العمليات الإرهابية التي شنها تنظيم القاعدة في السعودية في منتصف 2003، بدأت وزارة الداخلية حملة اعتقالات واسعة لأولئك الذين ذهبوا إلى أفغانستان.

يتذكر فهد: «قُبض عليّ ليلاً وأنا في طريقي إلى أحد المطاعم، وخلال التحقيقات اكتشفت أن أشخاصاً ممن قضوا ليلة عندي في منزلي نفذوا بعد أيام عملية في الرياض، وكانت صدمة بالنسبة إليّ خصوصاً أنني لا أؤيد العمليات ضد المدنيين حتى غير المسلمين سواءً في السعودية أو خارجها». يضيف: «صدر ضدي حكم بالسجن ثماني سنوات بسبب ذهابي إلى أفغانستان، لكنني قضيت عشر سنوات، وخرجت عام 2013، وبعدها بأشهر تلقيت تعويضاً من الحكومة السعودية قدره 760 ألف ريال (نحو 200 ألف دولار) ، ثم بدأت مشروعًا صغيراً وتزوجت، ولديّ طفلة عمرها عامان».

لكن هل يندم فهد على ذهابه الى أفغانستان وخوضه لهذه التجربة؟

يقول: «ربما. لقد فكرت بهذا الأمر كثيراً وأنا في السجن، ففي أفغانستان كان غالبية العرب ينبذون العمليات التي تستهدف المدنيين ولا يتبنون تكفير الحكام والدول، حتى أسامة بن لادن نفسه، كان لا يجيز أن ينفذ أي شخص عملية في أميركا إذا كان دخلها بتأشيرة، بإعتبار هذا من الغدر المحرم، كما كشفت رسائل أبوت آباد التي كتبها ونشرها الأميركيون بعدما عثروا عليها في مخبئه الذي قتلوه فيه في باكستان».

وبسؤاله عن تفسيره لهذا التناقض بين رسائل ابن لادن وسلوكه، حيث أن منفذي هجمات سبتمبر التسعة عشر دخلوا الولايات المتحدة بتأشيرات زيارة أو دراسة، قال: «اعتقد أن سبب هذا الأمر أن ابن لادن خضع في نهاية التسعينات لتيار متشدد في تنظيم القاعدة كان يقوده نائبه (رئيس التنظيم حالياً) أيمن الظواهري».