باريس: خاض جان لوك ميلانشون الخطيب المفوه ذو المواقف الجذرية، والاشتراكي السابق الذي أصبح وجه اليسار الراديكالي، حملة خارجة عن الأنماط المعروفة، مكنته من فرض نفسه كالمرشح الأوحد عن اليسار للانتخابات الرئاسية الفرنسية.

ويثير ميلانشون الذي يتبع في خطابه مبدأ "التحدث باسهاب وبلا مواربة"، مشاعر متعارضة، فيندد خصومه بشعبوي يساري، فيما يشيد أنصاره بمدافع عن الشعب بوجه القلة الحاكمة، وقد اختار هذا السياسي المعجب باليسار الأميركي اللاتيني شعارا لحملته "فرنسا المتمردة".

انطلق ميلانشون بحظوظ ضئيلة أدنى من 10% من نوايا الأصوات، محققا اختراقا ملفتا في الأسابيع الأخيرة لينافس اليميني فرنسوا فيون، مباشرة بعد الوسطي إيمانويل ماكرون وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن.

وهو يراهن على الموجة المطالبة برحيل الطاقم الحالي وتجديد الحياة السياسية، وتقول أوساطه أنه يسعى إلى "تعبئة الذين سئموا السياسة".

وكان المرشح الملقب "ميلوش" الذي درس الفلسفة والمعجب بالثوري الفرنسي ماكسيميليان روبسبيار كما بالرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، من مسؤولي الحزب الاشتراكي على مدى ثلاثين عاما، قبل أن يخرج منه، وهو اليوم من أشد منتقدي حزب الرئيس فرنسوا هولاند.

ولم يفقد ميلانشون في سن الـ65 أيا من راديكالية مواقفه، غير أنه بات أكثر ميلا للفكاهة ويحسن إطلاق عبارات قوية تنطبع في الأذهان، متخليا عن نوبات الغضب العنيفة التي طبعته لفترة طويلة. ويقول اليوم "إنني أكثر تعقلا من أي وقت مضى، وأقل نزقا. الصدام أثبت حدوده".

غير أنه في المقابل لا ينكر أيا من مواقفه ويقول "لا يمكن طرح ما أطرحه بوجه ساذج بريء وصوت هزيل. أحيانا لا يكون هناك خيار سوى اقتحام الأبواب ركلا".

لوبن عدوته اللدودة

طلاقة هذا السياسي الفرنسي المخضرم تجعله يحصد أعدادا قياسية من المتابعين على الإنترنت، وهو في طليعة السياسيين الفرنسيين على موقع "يوتيوب"، ويترقب أكثر من مليون متابع له على موقع "تويتر" نوادره وتعليقاته الساخرة.

ويمكنه الإنترنت من نشر أفكاره بدون المرور بوسائل الإعلام التي يقيم معها علاقات صعبة جدا وعاصفة.

وجاب ميلانشون فرنسا بشتى الوسائل، سيرا على الأقدام أو في شاحنة صغيرة أو في مركب، وهو يظهر خلال التجمعات الانتخابية براعة خطابية، فيأسر الحضور ملقيا كلماته بدون الاستعانة بأي ملاحظات، وعمد مؤخرا إلى إلقاء خطاب بالتزامن في مدن عدة من خلال صورة هولوغرام افتراضية.

وحصل ميلانشون على دعم عدد من المثقفين والفنانين الأميركيين، وبينهم الفيلسوف المثير للجدل نعوم شومسكي والممثل مارك روفالو.

ويقول أحد رفاقه النائب السابق جوليان دراي "إنه ابتكر العرض الكوميدي السياسي، أصبح استعراضيا. هذا الأسلوب يسمح له بتفادي توجيه انتقادات عنيفة للغاية. بات يتبع نهجا تعليميا، إنه الأستاذ السابق الذي يلقي درسا عن العالم وكيفية تغييره".

ولد ميلانشون في طنجة بالمغرب، وكان ناشطا طلابيا من التيار التروتسكي، ثم انضم إلى الحزب الاشتراكي في الـ25 من عمره. انتخب عن منطقة إيسون بضاحية باريس وشارك في الحكومة بين 2000 و2002 وزيرا منتدبا للتعليم العالي.

كان على خلاف شديد مع الحزب الاشتراكي وزعيمه آنذاك الرئيس الحالي فرنسوا هولاند، ما حمله في 2008 على الخروج من الحزب. تحالف مع الشيوعيين وحصل على 11,1% من الأصوات في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية عام 2012، متخذا موقفا "إلى يسار اليسار" وموجها هجمات عنيفة الى الليبرالية الجديدة.

غير أنه فشل في الانتخابات التشريعية التي واجه فيها زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن في معقلها بشمال فرنسا، منافسا عدوته اللدودة على أصوات الناخبين في الاوساط الشعبية.

وترى الباحثة سيسيل ألدوي أن "مفارقة جان لوك ميلانشون تدور حول مفهوم الشعب. فهو يحاول مطابقة مفهومه للشعب المثالي، ذلك الشعب الذي يقاتل من أجله، شعب العاطلين عن العمل والمأجورين وذوي الأوضاع الهشة... مع الشعب الذي يحضر فعليا مهرجاناته الانتخابية المنبثق في غالب الأحيان عن الطبقات الاجتماعية المهنية أكثر ارتفاعا: موظفون وموظفو دولة وأساتذة".

ويحمل ميلانشون باستمرار على أوروبا "الليبرالية"، داعيا إلى وقف العمل بالمعاهدات الأوروبية، ويوجه انتقادات لاذعة إلى ألمانيا المحافظة بزعامة المستشارة أنغيلا ميركل. كما يدعو إلى الخروج من الحلف الأطلسي وتبني فرنسا "سياسة عدم انحياز" إلى القوى الكبرى.