توفي زبيغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر يوم الجمعة عن عمر يناهز 89 عامًا في مستشفى في ولاية فرجينيا.

إيلاف من لندن: كان بريجينسكي منظرًا استراتيجيًا "صقوريًا" عاصر سنوات أزمة الرهائن الأميركيين في إيران والتدخل السوفياتي في أفغانستان في أواخر السبعينات.

ضد جشع النظام
كان بريجينسكي، على غرار سلفه هنري كيسينجر، أكاديميًا من مواليد دولة أجنبية (في بولندا وكيسينجر في ألمانيا) مارس نفوذًا واسعًا في الشؤون الدولية قبل عمله في البيت الأبيض، وبعد فترة طويلة على انتهاء مهامه الرسمية.

بعيون متفحصة تابع في مقالات ومقابلات وبرامج تلفزيونية على مدى عقود عمل ست إدارات، بينها إدارة دونالد ترمب، الذي لم يؤيد انتخابه، ونظر إلى سياسته الخارجية على أنها تفتقر إلى التماسك.

كان بريجينسكي محسوبًا على الديمقراطيين، قادته آراؤه إلى انتقاد ما سماه "جشع" النظام الأميركي، الذي قال إنه يفاقم اللامساواة. وكان من خبراء السياسة الخارجية القلائل الذين حذروا من غزو العراق عام 2003. &

لكنه من ناحية واحدة على الأقل كان يقف على يمين الكثير من الجمهوريين، بمن فيهم كيسينجر والرئيس ريتشارد نيكسون، وخاصة كراهيته الشديدة للاتحاد السوفياتي، حتى إنه دعم تقديم مساعدات بمليارات الدولارات إلى المتطرفين الإسلاميين الذين كانوا يقاتلون القوات السوفياتية في أفغانستان.

التصدي للسوفياتية
شجّع الصين، بصمت، على دعم نظام بول بوت الدموي في كمبوديا تحسبًا لوقوعها تحت سيطرة فيتنام المدعومة من الاتحاد السوفياتي. كان بريجينسكي ينحدر من عائلة أرستقراطية بولندية، مربوع البنية، له عيون ثاقبة، ويتكلم بلكنة بولندية واضحة.

كان يعرف كيف يسرق الأضواء، وتمكن من تهميش الممثل الرسمي للسياسة الخارجية الأميركية، وزير الخارجية سايروس فانس متسببًا في نشوء صراع معه انتهى باستقالة فانس.

وفي حين أن فانس كان يدعم سياسة نيكسون ـ كيسينجر في الحفاظ على ميزان قوى "مثلث الأضلاع" بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفياتي، فإن بريجينسكي كان يستهجن مثل هذه السياسة بوصفها "بهلوانيات"، على حد تعبيره. ودعا إلى ما سماه "تدهورًا استراتيجيًا" متعمدًا في العلاقات مع موسكو، وإقامة علاقات أقوى مع الصين. &

كما كان بريجينسكي أحد المحركين وراء عملية الكوماندو الفاشلة لإنقاذ الرهائن الأميركيين الذين احتجزتهم قوات الخميني في إيران بعد الإطاحة بنظام الشاه. انتهت العملية بكارثة وسط الصحراء في إبريل 1980 أسفرت عن مقتل ثمانية أميركيين قبل الوصول إلى طهران.

خلل واقعي
لم يُبلغ فانس بالعملية إلا قبل أيام على موعدها. وكانت تلك القشة التي قصمت ظهر الجمل، دافعة فانس إلى الاستقالة "ذاهلًا وغاضبًا"، كما قال في حينه.

كان تبرير بريجينسكي لدعم العملية مدفوعًا بخوفه من النفوذ السوفياتي، قائلًا إن محاولة الإفراج عن الرهائن بالعقوبات وغيرها من الإجراءات الدبلوماسية سترمي إيران في أحضان السوفيات، رغم أن كثيرين استبعدوا ذلك، مشيرين إلى أصولية رجال الدين الذين يحكمون إيران. &

كما أشار إلى أن نجاح العملية سيعطي الولايات المتحدة جرعة من المقويات هي في أمسّ الحاجة إليها، في إشارة إلى هزيمتها في فيتنام. كان بريجينسكي يميل أحيانًا إلى الاعتقاد بأن أي اختلاف بين النظرية والواقع يشير إلى خلل في الواقع.

وفي كتابه الصادر عام 1962 "الأيديولوجيا والقوة في السياسة السوفياتية" ذهب إلى أن الكتلة الشيوعية لن تنقسم، ومن المستبعد أن تنقسم في وقت كان الخلاف قائمًا بين بكين وموسكو. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أيّد بريجينسكي أن تمد الولايات المتحدة جسورًا مع روسيا وبحذر مع الصين أيضًا "لدعم الاستقرار العالمي".

ورغم إدانته التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية وغيرها، فإنه كان يعتقد أن آثار هذه التدخل هامشية بالمقارنة مع المشاكل الأساسية التي تهز المجتمعات الغربية.

التقاعد في كندا
ولد زبيغنيو بريجينسكي في وارسو في 28 مارس عام 1928. كان والده تاديوش دبلوماسيًا أخذ العائلة معه إلى فرنسا ثم إلى ألمانيا خلال صعود هتلر في الثلاثينات، وشاءت الصدف أن ينتقل مع عائلته إلى كندا عشية الحرب العالمية الثانية. وعندما وقعت بولندا تحت سيطرة الشيوعيين بعد الحرب العالمية، اختار تاديوش بريجينسكي التقاعد في كندا على العودة إلى بلده.

تخرج بريجينسكي الشاب من جامعة ماكغيل في مونتريال عام 1949، ونال شهادة الماجستير منها في عام 1950. ثم واصل تحصيله في هارفرد، حيث نال شهادة الدكتوراه بالعلوم السياسية في عام 1953، وعُيّن عضوًا في هيئتها التدريسية. وكان بريجينسكي وكيسينجر من المرشحين لدرجة أكاديمية رفيعة. وحين نال كيسينجر درجة أستاذ مشارك في عام 1959 انتقل بريجينسكي إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.

لم يكن بريجينسكي ثابتًا على الدوام في مواقفه. وحين عُيّن في مجلس تخطيط السياسات في وزارة الخارجية عام 1966 أصبح مدافعًا صريحًا عن التدخل الأميركي في فيتنام. وفي عام 1968 كتب بعد اندلاع تظاهرات مناهضة للحرب في جامعة كولومبيا وجامعات أخرى داعيًا إلى ملاحقة الطلاب وسجنهم.

العلاقة مع كارتر
لكنه في العام نفسه استقال من مجلس تخطيط السياسات في وزارة الخارجية احتجاجًا على توسع التدخل الأميركي في الهند الصينية في عهد الرئيس جونسون. ثم أصبح مستشار السياسة الخارجية لنائب الرئيس هيوبرت همفري، الذي دافع عن توسيع التدخل الأميركي خلال حملته الانتخابية في عام 1968.

تطورت علاقة بريجينسكي مع جيمي كارتر من خلال اللجنة الثلاثية التي شكلها ديفيد روكفلر عام 1973 بوصفها منبرًا للزعماء السياسيين وقادة الأعمال في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان لدراسة التحديات التي تواجه البلدان الصناعية المتطورة. وكان بريجينسكي أول رئيس للجنة.

في عام 1974 وجّه بريجينسكي دعوة إلى كارتر، الذي كان حاكم ولاية جورجيا ونجمًا ديمقراطيًا صاعدًا، إلى الانضمام إلى عضوية اللجنة. وبعد سنتين كان كارتر مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة، وعيّن بريجينسكي مستشاره للشؤون الخارجية.

منذ بداية تعيين بريجينسكي مستشار الأمن القومي في إدارة كارتر، ناور من أجل تعزيز موقعه. واحتفظ لنفسه بحق تقديم التقرير الاستخباراتي اليومي إلى الرئيس بنفسه، بعدما كان ذلك من اختصاص وكالة المخابرات المركزية. كان في أحيان كثيرة يدعو صحافيين إلى مكتبه لما يسميها إيجازات "حصرية" ممنوع نسبها إليه لتقديم وجهة نظره الخاصة بالأحداث، الأمر الذي كان يزعج وزير الخارجية فانس.

مذكرات
نشر بريجينسكي، الذي كان غزير الإنتاج في مجال الكتابة، مذكرات في عام 1983 عن سنواته في البيت الأبيض. في كتابه "فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمى الأميركية" الذي نُشر عام 2007 يقيّم بريجينسكي آثار حرب العراق التي عارضها وينتقد إدارات جورج بوش وبيل كلنتون وجورج بوش الابن على فشلها في استثمار إمكانات القيادة الاميركية بعد نهاية الحرب الباردة.

ورأى أن سجل جورج بوش الابن بصفة خاصة سجل "كارثي". وفي الحملة الانتخابية عام 2008 أيّد ترشيح باراك أوباما بقوة.&بعد أربع سنوات عاد إلى تقييم مكانة الولايات المتحدة عالميًا في كتابه "رؤية استراتيجية: أميركا وأزمة القوى العالمية".

واعتبر فيه أن استمرار قوة أميركا في الخارج ضروري للاستقرار الدولي، لكن ذلك يعتمد على تمكنها من تحقيق "توافق اجتماعي واستقرار ديمقراطي" في الداخل. لبلوغ هذه الأهداف لا بد من تضييق الفارق الهائل في الدخل بين الأكثر ثراء والآخرين وإعادة هيكلة النظام المالي بعيدًا عن خدمة مصالح "المضاربين الجشعين في وول ستريت" والتعاطي إيجابيًا مع التغير المناخي. &

فوضى التراجع
كتب بريجينسكي أن تراجع الولايات المتحدة عالميًا يمكن أن يؤدي إلى "مرحلة مديدة من الاصطفافات الجديدة غير النهائية والفوضوية على المستوى العالمي والإقليمي من دون رابحين كبار والكثير من الخاسرين". احتفظ بريجينسكي في الثمانينات من العمر بكامل نشاطه مدرّسًا ومؤلفًا ومستشارًا.

كان بريجينسكي متزوجًا من النحاتة الأميركية ذات الأصل التشيكي إميلي بنيش التي أنجب منها طفلين: مارك، وهو محام وسفير سابق في السويد في عهد أوباما، وجان، الذي عمل من بين وظائف أخرى نائب مساعد وزير الدفاع. وله شقيق اسمه ليك، وخمسة أحفاد.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "نيويورك تايمز". الأصل منشور على الرابط الآتي:

https://mobile.nytimes.com/2017/05/26/us/zbigniew-brzezinski-dead-national-security-adviser-to-carter.html?refer