حقق المستشار الألماني هلموت كول العديد من النجاحات والفضائح، حتى أمسك مجد الحياة السياسية من طرفيه. لكن يبقى على الرغم من كل شيء أبو الوحدة الألمانية، ومطلق رصاصة الرحمة على جدار برلين.

إيلاف من دبي: توفي يوم الجمعة 16 يونيو مستشار ألمانيا الأسبق هيلموت كول، أبو ألمانيا الموحدة، عن 87 عامًا، فأمر جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، بتنكيس الأعلام أمام مؤسسات الاتحاد الأوروبي حدادًا على وفاة من قاد ألمانيا الغربية، ثم ألمانيا الموحدة، 16 عامًا.

أبو ألمانيا الموحدة

ولد كول في مدينة لودفيكسهافن، في 3 أبريل 1930، في عائلة كاثوليكية محافظة، وتعلم من والده الخبير المالي في وزارة المالية كثيرًا من الأسرار المالية. أسعفه صغر سنه من الإلتحاق بـ"شبيبة هتلر"، وأنقذه هذا من التورط في النازية. كان كول في الخامسة عشرة حين أتم تدريبًا مهنيًا في الاقتصاد الزراعي، وحصل على الثانوية العامة في عام 1950. التحق بجامعة فرانكفورت لدراسة التاريخ والقانون، وواصل دراسته في جامعة هايدلبيرغ، وتخرج فيها في عام 1956. بعد عامين، نال درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من الجامعة نفسها. ثم عمل باحثًا في اتحاد الصناعات الكيميائية في مسقط رأسه في لودفيغسهافن. 

في عام 1960، تزوج من هانيلوره رينر ولم تكن قد تجاوزت السادسة عشرة. وقد انتحرت في عام 2001 بسبب إصابتها باكتئاب حاد.

مسيرة سياسية مبكرة

بدأ كول مسيرته السياسية باكرًا، إذ التحق بالحزب المسيحي الديمقراطي، وهو بعد في السادسة عشرة. تدرج سريعًا في التنظيم الحزبي حتى كان في عام 1959 على قائمته البرلمانية المحلية لولاية راينلاندبفالز. في عام 1963، ترأس كول كتلة حزبه ببرلمان راينلاندبفالز، ليُنتخب بعد ثلاثة أعوام رئيسًا لفرع الحزب في الولاية نفسها، وليدخل مجلس قيادة الحزب المسيحي الديمقراطي على المستوى الاتحادي. 

الرفيقان كول وميتران

في عام 1969، وقع عليه الاختيار نائبًا لرئيس الحزب فكان أصغر قياديه، ثم رئيسًا للحزب في عام 1973. بين عامي 1969 و1976، تولى رئاسة حكومة ولاية راينلاندبفالز، ودخل البرلمان الألماني (البوندستاغ) عضوًا فيه بين عامي 1976 و2002.

في عام 1982، صار كول مستشارًا لألمانيا، وانتخب مجددًا مستشارًا بعد فوز حزبه بالأغلبية في انتخابات 1983 المبكرة، كما أعيد انتخابه في أعوام 1987 و1990 و1994.

ترك منصب المستشار في عام 1998 بعد انكشاف تلقيه الملايين بوصفها تبرعات من مؤسسات مالية كبيرة، أخفيت في خزائن حزبه. وبعد عام، عمل في خدمة اللوبيات الاقتصادية عامين، من خلال منصبه في مجلس رئاسة بنك كريديه سويس السويسري، ومجموعة كيرش الإعلامية الألمانية.

العهد المميز

كول وزوجته الثانية المتسلطة

لطالما تميز كول عن غيره من المستشارين، الذين توالوا على ألمانيا: فقد تولى المستشارية بعد أزمة أدت إلى حجب الثقة عن سلفه المستشار الإشتراكي الديمقراطي هلموت شميدت، وكان المستشار الذي بقي في منصبه أطول مدة امتدت بين عامي 1982 و1998، حصلت في خلالها حوادث غيّرت تاريخ أوروبا، في مقدمها الوحدة الألمانية والوحدة النقدية الأوروبية. 

استطاع كول مع القيادات الأوروبية الأخرى فتح الحدود بين البلدان الأوروبية من خلال إقرار اتفاقية شينغن، وهو من قرّب آخر رئيس سوفياتي ميخائيل غورباتشوف من الغرب، محققًا إنجازات ساعدته على الاستفادة من مشكلات واجهها الحزب الاشتراكي، وتأمينه أصوات البرلمانيين بفضل الحزب الليبرالي الذي شاركه ائتلافيًا تشكيل الحكومات حتى عام 1998.

لا شك في أن سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 افتتح عصرًا جديدًا من الوحدة بين شطري ألمانيا، وهو الحدث الذي صبغ مستشارية كول الألمانية، ومهد لتجاوز عصر تقسيم ألمانيا وتحقيق الوحدة الأوروبية طريقًا وحيدًا لتجنب حرب أوروبية وعالمية جديدة، خصوصًا أنه بادر إلى مد جسور التعاون مع الدول الأوروبية المجاورة، وفي مقدمها فرنسا التي بادله رئيسها آنذاك فرانسوا ميتران مشاعر الوحدة نفسها، وشاركه أحلامه الوحدوية، محققًا معه مشروعات مهمة، أبرزها تبادل الشباب لتأهيلهم وزيادة معارفهم، وإنتشار قوات التدخل السريع الأوروبية والـ "يورو".

كول والشرق الأوسط

ما غابت أزمات الشرق الأوسط يومًا عن بال كول في المستشارية الألمانية، لذا كانت هذه الأزمات دائمة الحضور في سياسته الخارجية. فقد سعى حثيثًا إلى التوصل لحل مرضٍ للصراع العربي الإسرائيلي، وهو من كان العامل الأساس لفتح ممثلية ألمانية في أريحا، تولاها مارتين كوبلر.

كول ومارغريت ثاتشر

وما كان كول يغادر فرصة وجود الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في ألمانيا من دون لقائه، ليبحثا أمورًا سياسية وتنموية خاصة بالأراضي الفلسطينية، كمشروعات الري وتوسيع المساحات الزراعية وزيادة الإنتاج التي تمولها صناديق ألمانية. كان كول يرى في النمو الاقتصادي الفلسطيني ما يدعم السلام مع إسرائيل. 

من جانب آخر، لا ينسى الأتراك قرار كول الشهير تخفيض عددهم في ألمانيا إلى النصف، بحسب بروتوكول سري عقده مع بريطانيا في عام 1982، احتفظت به لندن وأفرجت عنه بعد 30 عامًا. فهو زار لندن والتقى رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في 28 فبراير 1982 وأبلغها بقراره إعادة نصف الأتراك إلى بلادهم خلال أربعة أعوام بسبب عدم قدرتهم على الإندماج في المجتمع الألماني. قضت خطته التي قرر البدء بها في عام 1983 تسفير كل تركي عاطل عن العمل بعد تعويضه بزهاء 10500 مارك ألماني غربي، واسترجاعه ما دفعه لصندوق ضمان الشيخوخة، وحصوله على 1500 مارك لكل ولد من أولاده.

فضيحتان

في سجل كول أكثر من فضيحة. ظهرت الأولى قبل تسلمه السلطة في سبعينيات القرن الماضي، تورط فيها الكثير من كبار السياسيين غيره، بسبب تبرعات قدمها اتحاد شركات فليك الألمانية إلى كول ومعظم الأحزاب الألمانية. في عام 1975، باع الاتحاد أسهمًا له في شركة دايملر بقيمة 1.9 مليار مارك ألماني لمصرف دويتشه بنك، وطلب إعفاءه من دفع الضرائب على هذه المبالغ، قيمته زهاء 970 مليون مارك. حصل كول يومها على 50 ألف مارك فقط لا غير. في عام 1984، بدأ الادعاء الألماني التحقيق في هذا الملف، لكنه لم يصل إلى نتيجة تذكر، واقتصر الأمر على فضح أسماء من قبض الرشاوى.

كول وميركل أو الأستاذ والتلميذة النجيبة

كانت الثانية أكثر تعقيدًا وإضرارًا بسمعته، إذ حدثت في عهده مستشارًا بسبب حصوله من جهة مجهولة على مليوني مارك ألماني نقدًا بين عامي 1993 و1998، وضعهما رصيدًا في صندوق الحزب. لم يعرف الادعاء العام بأمر هذه التبرعات غير القانونية إلا في عام 1999، أي بعد خسارة كول في الانتخابات. رفض كول الافصاح عن مصدر التبرعات، فحكم عليه القضاء الألماني بدفع غرامة قدرها 300 ألف مارك، ولم يُسجن لعدم توافر أدلة تدينه مباشرة. ونزع منه لقب الرئيس الفخري لحزبه المسيحي الديمقراطي.

والجدير ذكره هنا أن المستشارة الحالية أنجيلا ميركل هي تلميذة كول، الذي كان بمنزلة أبيها الروحي. فبعد انضمامها لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي المحافظ، وكان زعيمه حينذاك، عرض عليها أولى مسؤولياتها الوزارية. وبعد نحو عقد من الزمان، اغتنمت ميركل فضيحة التبرعات لإبعاده عن السياسة، ولتحل محله زعيمة للحزب مع مطلع الألفية الجديدة.

زوجة ثانية

بعد اعتزاله السياسة وتخليه عن مقعده البرلماني بسبب الفضيحة، لزم كول منزله في اوغرسهايم. تعرض لوعكات صحية كثيرة، وخضع لعملية جراحية في القلب. في عام 1998، سقط على رأسه فضعفت يده اليمنى، وما عاد يستطيع تحريكها جيدًا، وصعب عليه اللفظ.

وعلى الرغم من توقع الإعلام الألماني وفاته سريعًا بعد الحادثة، تزوج ثانية في عام 2008 من هايكه كول ريشتار البالغة من العمر 49 عامًا، وكان قد تجاوز 83 عامًا. ونقلت التقارير الألمانية عن زوجته الثانية قولها إن علاقتها بكول بدأت في عام 2005، بعد وفاة زوجته الأولى بأربعة أعوام. 

في 8 مايو 2008، تزوجا في كنيسة صغيرة في أحد المستشفيات، وكان كول يعاني وعكة صحية، وغاب عن الحفل ولداه بيتر وفلتر بسبب خلافات بينهم.

لم ينقطع كول عن الحياة السياسية، لكنّ كثيرين رووا أن زوجته الثانية سيطرت على حياته بشكل تام: رعته واهتمت بشؤونه وقرأت له الصحف والتقارير، لكنها في الوقت نفسه أبعدته عن أصدقائه، الذين لم يروقوا لها، حتى اشتكوا من تسلطها عليه وقطعوا كل صلة به. 

على الرغم من ذلك، نسبت إليه الصحافة الألمانية مرارًا قوله: "لولاها لما بقيت على قيد الحياة".

أصدر كول كتبًا عدة، أهمها "ذكريات" بثلاثة أجزاء، و"نداءٌ حرصًا على أوروبا"، و"من انهيار الجدار إلى الوحدة".

حصل على نحو ثلاثين وسامًا وجائزة وميدالية، أهمها "وسام الصليب الكبير" من الدولة الألمانية في عام 1998، و"الميدالية الذهبية" من سويسرا في عام 2007، و"جائزة كيسينجر" في عام 2011. وأصدرت ألمانيا في عام 2012 طابعًا بريديًا يحمل صورته، وتم ترشيحه منذ عام 1998 لجائزة نوبل للسلام.

أبو ألمانيا