«إيلاف» من دبي: تفتح بريطانيا باب الطب الشخصي برسم الخريطة الوراثية لكل بريطاني، ما يتيح للأطباء تشخيص أمراضهم وتحديد العلاج الذي يلائم كل مريض بحسب مرضه.

يقف العالم على مشارف ثورة حقيقية في ميدان الفحص الجيني، بحسب خبراء بريطانيين في هذا المجال أعلنوا اقترابهم من رسم خريطة وراثية لكل بريطاني، تتيح للأطباء تشخيص أمراضهم، خصوصًا السرطانية، وصوغ سياسة علاجية تلائم كل مريض بحسب مرضه.

الفحص الجيني تحليل للمادة الوراثية الموجودة في الخلية البشرية، يرسم صورة واضحة للورم السرطاني: قابلية الجسم للإصابة به ونوعه ومدى تفشيه، ما يساهم في تحديد البروتوكول العلاجي الأفعل. وهذا فحص يستفيد منه المصابون بأنواع نادرة من السرطان التي لم يتوصل العلم إلى كشف كل أسرارها بعد، إضافة إلى الحالات المستعصية التي عجزت الوصفات العلاجية عن شفائها. وتعتبر نتائج هذا الفحص دقيقة إلى حدّ كبير، وفي كثير من الأحيان تعطي معلومات مفيدة عن بعض الأمراض الوراثية، وخصوصًا الأورام الوراثية.

يتم اجراء هذا الفحص بأخذ عينة من اللعاب بعد الامتناع عن تناول الطعام نصف ساعة على الأقل قبل اجرائه. ترسل العينات إلى مختبرات مختصة، وتظهر النتيجة خلال ثلاثة إلى أربعة أسابيع.

إختبارات روتينية

في هذا الإطار، نقلت التقارير عن سالي ديفيز، رئيسة هيئة الأطباء في بريطانية، صورة لما سمته "الحلم الجينومي" الذي يفتح الأبواب واسعةً أمام ما يسمى "الطب الشخصي" أي البروتوكول الطبي المخصص لكل مريض بالسرطان بنفسه من دون تعميم، وذلك بعد رسم خريطة التركيبة الجينية لكل مريض في بريطانيا.

قالت ديفيز: "سيُتاح الفحص الجيني خلال خمسة أعوام، لتصبح كاختبارات الدم الروتينية والتصوير بالرنين المغناطيسي. ويمكّن مرضى السرطان والمصابون بأمراض جينية، من الإسراع في تلقي العلاج من دون أن يخضعوا لاختبارات وتشخيصات معقدة تستغرق وقتًا طويلًا، يمرون خلالها بسلسلة من الأطباء والمختصين".

في البحوث المؤدية إلى هذه الخريطة، يتعرف العلماء خلال عملية وضع التسلل الجيني للأفراد على طبيعة الأوامر التي تصدرها الجينات. وتفترض نتائج هذه البحوث أن جينوم المصابين في 60 في المئة من الأمراض السرطانية يكشف التشوهات الجينية التي تؤدي بدورها إلى حسن تحديد السياسة العلاجية الناجعة.

في أثناء إصابة الإنسان بالسرطان، تطور الخلايا الخبيثة جينومًا مختلفًا عن الجينوم الذي تطوره الخلايا السليمة، ومقارنة هذين الجينومين تقدم للباحثين المعلومات والبيانات التي تقدّرهم على تقرير العلاج الملائم.

غيرت وجه الطب

أضافت ديفيز: "تم إنجاز الجينوم الخاص بآلاف المرضى الذين يتلقون العلاج ضمن هيئة الخدمات الصحية البريطانية، وعلينا مضاعفة جهودنا لرسم الجينوم الخاص بأعداد أكبر من البريطانيين، فها عصر الطب الدقيق قد انطلق، وعلى هيئة الخدمات الصحية العمل على أن تكون في مقدّم جبهة العلوم، لأن هذه التقنية قادرة على تغيير وجه الطب إلى الأبد، وندعو الجميع لاحتضانها".

وبحسب ديفيز، لطب الجينوم تأثير لا يمكن تجاهله في فهم طريقة تطور الأمراض النادرة وأمراض السرطان وأنواع العدوى لحسن معالجتها. 

يعكف 25 مختبرًا في بريطانيا اليوم على وضع التسلسل الجيني للمواطنين البريطانيين، وقد أوصت ديفيز بإقامة نظام مركزي للمختبرات وبتأسيس شبكة وطنية لإتاحة الفرص المتكافئة للجميع في أنحاء البلاد. ومن المنتظر تشكيل هيئة الجينوم الوطني الحكومية التي سيرأسها وزير، تشرف على طب الجينوم وعلى إدخال التقنيات الجديدة المطلوبة في البروتوكولات الاستشفائية المعتمدة.

وبحسب تقرير أخير أشرفت ديفيز نفسها على وضعه، في الإنسان 20 ألف جينة تحتوي على نحو 3.2 مليارات حرف، ودراستها المفصلة توضح المفهوم وراء الطب الشخصي: تشخيص سريع ودقيق للمرض بدراسة تركيبة المريض الجينية، وبالتالي إمداده بعقاقير موجهة إلى الخلايا الخبيثة نفسها، من دون تعميم الضرر على الخلايا السليمة.

رصد التغيرات الجينية

طور باحثون بريطانيون في معهد أبراهام في جامعة كمبردج طريقة لرصد التغيرات الكبرى في تركيبة الجينوم داخل الخلايا السرطانية. وقالوا في دراسة نشرت في مجلة "جينوم بيولوجي" إنهم وضعوا طريقة تسمى Hi – C تسمح للباحثين بالتعرف على الوسيلة التي يتم من خلالها تغيير مواضع الجينات داخل الخلايا.

وبحسب الدكتورة لويز هيروود، المشاركة في هذه الدراسة، إعادة ترتيب "الكروموسومات" في الخلايا ترصد في بعض المرضى، لكنها ترصد في أغلبية مرضى السرطان، ومع ذلك يبقى الكشف عنها صعبًا، وحين يحصل يكون مفيدًا في التشخيص والعلاج. 

لا شك في أن تراجع كلفة الفحص الجيني إلى نحو 680 جنيهًا إسترلينيًا (880 دولارا) من عدة آلاف من الجنيهات يؤدي دوره الفاعل في توسيع أفق سياسة رسم الجينوم الفردي في بريطانيا، حيث يعاني نحو 3.5 ملايين من البالغين والأطفال من واحد من 7 آلاف مرض نادر سبق تشخيصه، وبالتالي يمكن علاجها بسرعة وفاعلية بعد إجراء الفحص الجيني لكل مريض.

في السكري أيضًا

في المقلب الآخر من العالم، وفي الإطار الطبي نفسه، عثر فريق من الباحثين الاميركيين على جينة وراثية تقاوم مرض السكري من النوع الثاني من طريق تحويل السكر (الغلوكوز) إلى أحماض دهنية، وتعزيز استجابة الجسم لهرمون الإنسولين المسؤول عن تخفيض نسبة السكر في الدم.

وأطلق الفريق، الذي قاده البروفيسور مارك هيرمان، على هذه الجينة اسم «ناقلة الغلوكوز»، لأنها نظمت حساسية الإنسولين في خلايا الأنسجة البشرية.

ونقلت التقارير عن هيرمان قوله: "البدانة ترتبط في الأذهان بالاختلالات الوظيفية التي تهدد أصحابها بخطر الاصابة بمرض السكري والأزمات القلبية، بينما تشير الوقائع العلمية إلى وجود نسبة كبيرة من أصحاب الاجسام البدينة تعيش بصحة جيدة، من دون أي اختلالات وظيفية".

وتردّ تسمية العلماء للجينة بـ "ناقلة الغلوكوز" بسبب المساعدة الذي تقدمها في إطار الوقاية من الإصابة بمرض السكري، من خلال سماحها بدخول المزيد من السكر إلى الخلايا الدهنية، وبذلك يصبح الجسم قادرًا على تنظيم مستوى السكر في الدم عند احتراق نسبة منه في دهون الجسم.

وبحسب دورية "نايتشر" العلمية، وجد الفريق البحثي مكتشف جينة نقل الغلوكوز أن زيادة معدلات هذه الجينة في فئران التجارب البدينة سمح بمرور المزيد من السكر إلى خلاياها الدهنية، ما حماها من الإصابة بمرض السكري، فيما ظهرت أعراض المرض على فئران نحيفة افتقدت للجينة إياها.

مكتشفات أخرى

أدت بحوث الجينوم البشري وسبل استخدامه وسيلة ناجعة في علاج الأمراض إلى عدد من الاكتشافات، منها اكتشاف الجينات المسؤولة عن الكسل عند الإنسان، والتي تنتج بروتينات تؤثر في نظام هرمون دوبامين في الدماغ، ما يجعل الإنسان أقل ميلًا إلى ممارسة النشاط البدني.

ووجد باحثون في معهد كينغز كوليدج للطب النفسي في لندن جينة تربط الذكاء بكثافة المادة السنجابية في الدماغ، ما يساعد العلماء على فك ألغاز الصعوبات في التعلم. واكتشف باحثون يابانيون جينة مرتبطة بالعقم عند الرجال، وعثر علماء فنلنديون على جينة مسؤولة عن فرق الطول بين الذكر والأنثى، ووجد علماء أميركيون جينة تسبب مرض الربو عند الأطفال، وكشف باحثون ألمان الأسباب الجينية لزيادة الوزن والسمنة.

إلى ذلك، حدد باحثون أميركيون في جامعة كوينزلاند جينة مهمتها حماية الإنسان من أمراض التنكّس العصبي، مثل باركنسون وألزهايمر وهانتنغتون.