نيويورك: تنفي البوذية وجود ذات واحدة ثابتة تراقب العالم وتصنع القرارات وتقول إن ما يجري في داخلنا هو أشبه بالحرب الأهلية تتقاتل فيها جيوش مستقلة تمثل نفسها أمة موحدة لكنها غير قادرة على تسوية خلافاتها، تحرز انتصارات في معارك قصيرة توحي لها بوهم السيطرة وامتلاك القرار.

ويكون دور التأمل في هذه الفوضى بمثابة قوة لحفظ السلام، إذا لم تتمكن من تسريح هذه الجيوش فانها على الأقل ترى طبيعتها وتجرد جنودها الذين ما زالوا يافعين من اسلحتهم موقتاً.

البوذية وحدها من بين الممارسات الروحانية التي اعترفت بطريقة التفكير بعد الحدث التي تعتمدها عقولنا وتطلب منا ان ندرك طبيعتها الزائلة من خلال التأمل.

ويقول روبرت رايت في كتابه الجديد عن البوذية ان فلسفتها تذهب الى ان المشاكل العلاجية والمشاكل الروحية على السواء هي "نتاج عدم رؤية الأشياء بوضوح" وان عدم رؤية الأشياء بوضوح في الحالتين هو في جانب منه نتاج "كوننا مضلًّلين بمشاعرنا". ويضيف "ان الخطوة الأولى نحو تجاوز هذه المشاعر هي رؤيتها أولا ان نصبح مدركين كيف ان المشاعر تؤثر من حيث لا ندري في فكرنا وسلوكنا".

مشاعرنا لا تكف عن انتاج روايات عن العالم، ونحن نصبح أسرى هذه الروايات التي تقول لنا ما يجعل الأشياء جيدة أو سيئة، مرغوبة أو ليست مرغوبة، ذات معنى أو تافهة. والتأمل يرينا كيف يمكن تفريغ أي شيء من القصة التي نحكيها عنه. وينقل رايت عن احد المعلمين الروحيين البوذيين قوله "ان كل حالات الهدوء الذهني تأتي من خلال ادراكنا بأن الأشياء ليست كما كنا نظنها".

وبحسب رايت فان الجلوس والتنفس لمدة 25 سنة في شارع مزدحم وسط ضوضاء السيارات والحافلات مستمعين الى العالم وليس الى الصراعات والتناقضات والاشتباكات الدائرة في عقولنا، يمكن ان يمنح للمتأمل صفاء الذهن في صخب الحياة. الطيور تزقزق وحتى الاشجار ترتفع الى الشمس التي تستمد منها الحياة. هذه هي اغاني الرغبة واصوات الحياة، كما يقول البوذيون عن مهمة التأمل في ديانتهم.

يرى المؤلف رايت ان جوهر ممارسة التأمل هو إبعاد القصص التي نرويها بصورة قهرية عن كل لحظة في حياتنا لصالح معايشة اللحظة نفسها بكل بساطة. ويدعو رايت مع كتاب آخرين متحمسين للتأمل الى تحديث البوذية وعلمنتها بحيث تحتفظ بقدرتها على منح صفاء الذهن بالممارسات القديمة وتتكيف في الوقت نفسه مع العالم الحديث. واثارت هذه الدعوة تساؤلات عما إذا كانت بوذيتهم ذات مضمون فريد أم انها تتكون من المبادئ الأساسية لليبرالية العلمانية مطعَّمة بمفردات مستعارة من حكمة الشرق.

ويبقى اكتشاف البوذية بنسختها العلمانية أو التقليدية في حقيقة ان الموت يجعل الفقدان يقيناً. ورغم كل الطرق التي ابتكرها العلم وطفله النجيب الطب للتخفيف من المعاناة التي تقترن بحياة الانسان فان عامل الحزن يبقى موجوداً كما كان في زمن بوذا. وإذا كان بمقدور العلم تخفيف الألم فانه يقف عاجزاً امام فناء جميع الكائنات في نهاية المطاف، امام الحقيقة الماثلة في اننا إذا كنا محظوظين سنموت بعد 80 سنة. ويرى الكاتب آدم غوبنيك ان المشكلة الأكبر هي ليست المعاناة بل الحزن والحزن سببه حقيقة الفقدان.

لدى كل ممارسة دينية شكل مختلف من المواساة يقدمه في مواجهة الفقدان، وكل منها مفيد. واحياناً نجد ما يعيننا على الاستمرار بالتوقف عند حجم الكون الذي لا يمكن تخيله، أو الشعور بوجود العائلة والأهل والحياة الاجتماعية، أو اضاءة شمعة والابتهال أو مجرد الجلوس والتنفس كما يفعل البوذي في تأمله.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "نيويوركر".