بعد ست سنوات من الغياب، سنحت الفرصة لكي أكون في سوريا مجددا.

عندما غادرت سوريا لآخر مرة، كانت الأزمة أو الثورة أو الأحداث، التي يختلف مسماها حسب موقفك من الصراع، في بداياتها. كانت الطائرة التي حملتني آنذاك إلى دمشق مرتين متتاليتين قد أقلعت مباشرة من القاهرة.

تبدلت الأمور كثيرا على مدى ست سنوات، أُغلقت خلالها السفارات السورية في معظم العواصم العربية والغربية، وتوقفت خطوط الطيران الرئيسية عن الإقلاع أو الهبوط في دمشق. كان علي أن أتوجه إلى بيروت لأحصل على تأشيرة دخول من السفارة السورية هناك، وأقطع الطريق برا عبر الحدود اللبنانية السورية إلى دمشق من معبر المصنع - الجديدة.

إذا تجنبت زحمة السير في يومي الجمعة والأحد، فإن الطريق لن يستغرق أكثر من ساعة ونصف، حسبما يقول المسافرون. على الجانب اللبناني مِن الطريق تحتشد المظاهر الأمنية والعسكرية بشكل ملحوظ. يتوقف السائق عند مقهىً للاستراحة اتفق عليه رواد الخط البري. الرحلة تكلف 150 دولارا على الأقل للسيارة الخاصة. تجد عشرات العائلات تأتي وتروح على المعبر الحدودي، معظمهم من السوريين وقليل جدا من الأجانب.

الصورة المسبقة في ذهني دعتني لتصور أن حال الجزء اللبناني من الطريق أفضل كثيرا من الحال على الجانب السوري. لكن توقعاتي خابت.

فالجانب السوري معبد وسليم بشكل يلفت الانتباه. لم ألحظ قوافل عسكرية على طول الطريق كالتي تلحظها على الطرق في العراق. فقط عدة حواجز عسكرية اجتزناها في يسر بعد السؤال عن الوثائق والأمتعة. ربما لأن المعارك تدور رحاها في مناطق بعيدة. لكن روح المعارك حاضرة، إذ يمتلأ الطريق بلافتات وصور وشعارات تؤيد الجيش السوري والرئيس بشار الأسد وحلفاءه في الصراع الراهن.

وصلنا إلى شارع المزة، أحد الشوارع الرئيسية في دمشق، قرابة العصر. كانت الشوارع هادئة وقد خلت بعودة الموظفين من أعمالهم.

في المساء، لم أقاوم فضول الخروج لاستكشاف محيط ساحة الأمويين، حيث أدركت أن دمشق - أو على الأقل مركزها - لازالت تحتفظ بتلك المسافة التي تفصلها عن بؤرة الصراع.

ربما تزيد المسافة أو تنقص حسب حدة المعارك في ريف دمشق والغوطة، لكن زحام المساء كان هو المفاجأة التي تجعلك غير مصدق أنك في مدينة هجرها مئات الآلاف من أَهلها. إنه وجه آخر لدمشق غير وجه الدم والقصف والتفجيرات الذي تحمله الأخبار.

كانت الساعة التاسعة والنصف مساء عندما شاهدت زحاما أمام مبنى مكتبة الأسد الوطنية في الجانب الآخر من ساحة الأمويين. تبين أنه معرض الكتاب الدولي الذي اُفتتح قبل أربعة أيام. سألت الحارس إن كان بوسعي الدخول. أبلغني أن أبواب المعرض تُغلق في العاشرة مساء وأن أمامي نصف ساعة فقط.

شارع أحمد شوقي، أمير الشعراء، يقودك من المزة إلى منطقة أبو رمانة. لا تخطئ أنفك رائحة الياسمين المنبعثة من حدائق صغيرة في مداخل البنايات على امتداد الشارع. في محيط أبو رمانة، يعج المساء برواد المقاهي وكأن لا حرائق في أي مكان آخر سوى نيران "الأراجيل" الدمشقية ورائحة تبغها. دمشق المقاهي والمطاعم ليست دمشق الحرب.

لا يقتصر الرواد على جنس أو زي أو نمط محدد من الرجال أو النساء. ثمة مزيج في الشارع من كل هؤلاء جميعا، لا يخفون احتفالهم بالحياة. في مطعم الحديقة بالفندق الفاخر أيضا لن تسمع همسات عن السياسة أو القصف، فهمسات الرجل والنساء وضحكاتهم تنصرف إلى العادي واليومي في شؤونهم، من التسوق إلى صيحات الهواتف المحمولة.

كنت أوشك أن احتفظ بتلك الصورة لليلتي الأولى عن دمشق، حتى اهتزت نافذة غرفتي في الواحدة بعد منتصف الليل على إيقاع قصف مدفعي قادم من جبل قاسيون. تحدثت إلى صديقي الدمشقي فطمأنني بأن أصوات القصف هي أيضا جزء من إيقاع الحياة "الطبيعية" التي اعتادتها دمشق على مدى سنوات.