الرباط: ترى نسبة عالية (92 في المائة) من العينة التي شاركت في استطلاع "إيلاف المغرب" بخصوص الجدل الدائر في البلاد بخصوص معاشات البرلمانيين، أعضاء الغرفتين التشريعيتين: هل يوافقون الرأي المنتشر بين قطاعات واسعة من المغاربة بأن المعاشات الممنوحة للبرلمانيين بعد انتهاء المأمورية النيابية، تعد ريعا واضحًا، ليس لهم الحق فيه خاصة وأن القسط المالي الأكبر من المعاشات تتحمله ميزانية الدولة.

وليس في نتيجة استطلاع "إيلاف المغرب" أية مفاجأة في أعقاب اللغط الكبير الذي أثارته المعاشات في الصحافة المغربية منذ مدة، بتعدد منابرها وتوجهاتها، منددة ومنتقدة ظاهرة "ريع المعاشات" مطالبة بتوقيفها أو على الأقل سحب الأقساط المرتفعة التي تساهم بها الدولة المغربية من المال العام وترك النواب ينظمون تقاعدهم بالشكل الذي يرضيهم.

والمثير حقاً في قضية معاشات البرلمانيين المغاربة وجود تناقض غريب، فالمعروف أن البرلمان له دور رقابي يفرض على النواب مساءلة السياسات وأساليب تنفيذها؛ وفي المقدمة الحرص على المال العام والتأكد من صرفه بكيفية شفافة وحكيمة ؛ لذلك يندهش الرأي العام المغربي من سكوت البرلمانيين المستفيدين من تقاعد مدى الحياة عن امتياز لا يقبله عقل ولا منطق، بل يتجنبون الجهر بالرأي الصريح بشأنه لدرجة أن فرقا برلمانية من المعارضة والموالاة، تتبنى خطابًا مزدوجا: تأييد الإبقاء على المعاشات حينما يكون المستفيدون تحت قبة البرلمان، والإعراب عن معارضتها خارج القبة التشريعية، مثلما تتباين مواقف الأحزاب بنفس القدر من الغرابة والازدواجية، وهذا ما يؤجج نار الاحتجاج فيغيب الحق وسط الباطل.

والحقيقة أن الريع الذي استطابه البرلمانيون وسكتوا عليه دهراً، هو إرث سياسي واقتصادي متوارث منذ إقرار النظام البرلماني في المملكة المغربية عام 1963، فرضته رغبة الحكم في تشجيع فئة من المواطنين على الانخراط في الحياة السياسية والتجربة البرلمانية الفتية وخاصة النخب الحزبية، علمًا أن عدد أعضاء البرلمان كان إذ ذاك محدودا قياسا إلى الأعداد الحالية المرتفعة من دون مبرر، بينما ظلت الحصيلة إجمالا متواضعة في ختام سائر الولايات التشريعية، وهذا عامل آخر يجعل النقد الموجه للبرلمانيين المغاربة اشد ضراوة وحدة وانتشارًا بين الفئات المستضعفة.

ولما شابت التجارب البرلمانية،التي عرفها المغرب منذ عام بداية الستينيات، كثير من عيوب الديمقراطية، فقد جلبت إلى الغرفتين أغلبيات مصنوعة ومعارضة مقلصة، وبالتالي دور صوري للبرلمان، سهل على الحكومات المتعاقبة إسكات النواب بالإغراءات والامتيازات المادية، في مقابل جهد شكلي ينحصر في المصادقة على السياسات المتبعة. بعبارة أخرى كان الهاجس في الماضي تمكين البلاد من واجهة ديموقراطية، مهما كثرت عيوبها، لأنها موجهة في الأساس إلى الخارج أكثر من الداخل.

ومن الطبيعي أن تثار الأسئلة عن هذه الظاهرة غير العادية،في ظل العهد الجديد الذي طالما ألح على الحكامة والشفافية؛ وبالتالي يتنافس الناس في كيل الاتهامات إلى البرلمانيين والحكومة على السواء، كون الطرفين أي الحكومة والنواب يقران اقتطاعا إضافيا من أجور المستخدمين لتغطية عجز صناديق التقاعد، بينما لا تمس معاشات البرلمانيين بسوء، يتقاضونها مدى الحياة وبمجرد انتهاء مهامهم أو بالأحرى نزع الثقة الشعبية منهم، إذ يندر أن يتخلى برلماني عن الغنيمة السهلة، وعادة ما يعيد ترشيح نفسه لولايات متعددة، ما رسخ في أذهان الرأي العام الصورة السلبية لممثليهم في مجلسي النواب والمستشارين.

وللذكر فقط، فقد تجاوز عمر احد البرلمانيين في عقد تسعينيات القرن الماضي قرنا (103 سنوات) في بداية الولاية أي أنه ظل يتابع الجلسات بذهن يقظ وعمره 108 سنوات.

وما يبرر كذلك النقد العارم والمعارضة المرتفعة بين المغاربة كيفما كان عدد المشاركين في الاستفتاء، هو عدم التناسب بين أداء ممثلي الأمة وما يتقاضونه من الخزينة العمومية ؛ لدرجة أن قطاعات واسعة من المغاربة يؤمنون أن لا جدوى في البرلمان أو على الأقل يستكثرون عدد النواب وكلفتهم المالية ؛ توافقهم في مطلبهم بعض الأحزاب السياسية غير المستفيدة من الريع.

ونتيجة لهذا التفاوت الصارخ بين النفقات المالية والنتائج السياسية، تراجعت نحو السلب صورة البرلمان المغربي ونوابه بدرجة كبيرة في أذهان المغاربة، وبالتالي لا غرابة أن تكون مشاركتهم في الاستحقاقات التشريعية والجماعية ضعيفة لا تصل الخمسين في المائة من الكتلة الناخبة ؛ والأخطر دلالة أن النسبة تنزل في بعض المدن إلى ما دون الثلاثين في المائة، والحواضر كما هو معلوم فضاء السياسة والوعي وصراع الأفكار.

لكن ما يدعو إلى إلى التأمل والتفكير العميق هو الإشكالية أو المفارقة السياسية الكبيرة التي يعيشها المغرب: مجتمع حيوي، به حراك فكري واجتماعي عنيف أحيانا، دون أن تعكسه جلسات ونقاشات المؤسسات التمثيلية الوسيطة أي البرلمان بغرفتيه.

في هذا السياق، لم يفلح الدستور المغربي الجديد الذي منح المؤسسة التشريعية صلاحيات واسعة، مثلما لم يحسن البرلمانيون المنتخبون التعاطي معها في بعث دينامية برلمانية. الأدهى والأمر بل المثير لدهشة الملاحظـ هو أن المجالس النيابية ما قبل دستور 2011 كانت تضم كفاءات سياسية متمرسة بالعمل البرلماني دون نسيان أن بعضهم استفاد من معونة ثمينة قدمتها وزارة الداخلية لصالحه ليلة الاقتراع ؛ وفي الوضع الجديد استفاد مرشحون ضعاف ومن لا خبرة لهم من شفافية الصناديق ومراقبة المندوبين الحقوقيين للتأكد من سلامة الاقتراع، فنجحوا في اقتحام الغرفتين، مستفيدين من عدة عوامل بينها نمط الاقتراع وضعف المشاركة.

النتيجة أن البرلمانيين المغاربة، لهم سلطة التقرير والتشريع والاقتراح ومحاسبة السلطة التنفيذية حسابا عسيراً، لكنّ كثيرين من ممثلي الأمة لا يقدرون ثقل المسؤوليات الملقاة على عاتقهم ؛ أما الواعون بدورهم الرقابي، فهم إما أنهم صامتون أو أن صوتهم لا يسمع وسط اللغو الصادح حول قضايا لا تقنع المواطن العادي بأن صوته وصل إلى المؤسسة العتيدة ويوجد بها من يبلغ شكواه وتظلمه.

وباختصار ليس الجانب المالي هو المستهدف بالنقد وحملة التشهير في المغرب من طرف الناشطين. المستهدف جوهر النظام التمثيلي البرلماني ونواقصه ؛وهذا ما يفسر تواتر إشاعات،كلما واجهت البلاد أزمة سياسية أو اجتماعية، تذهب إلى توقع حل البرلمان وتعديل الدستور. وهذا أمر وارد عند أي منعطف سياسي تواجهه المملكة المغربية، بعد ان ظلت المؤسسة التشريعية غائبة عن دورها الرقابي والعقابي للحكومة.