باريس: مع تمكين شي جينبينغ من البقاء في السلطة مدى الحياة، ترسخ الصين موقعها أكثر ضمن المجموعة المتزايدة من الدول التي تعتمد أسلوب حكم استبداديًا برئاسة رجل مطلق الصلاحيات، في مواجهة النموذج الديموقراطي في الغرب.

ويساهم قادة مثل فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان وفيكتور أوربان ورودريغو دوتيرتي، والعديدون منهم منتخبون ديموقراطيًا، في نشر نهج الحكم المنافي لليبرالية وغير المؤاتي لمناصرة الحقوق الفردية بوجه السلطات.

ويشكل تزايد هؤلاء القادة من روسيا إلى تركيا وصولاً الى المجر، تحدياً لنموذج الديموقراطية الليبرالية الذي يقوم على ركيزتين اساسيتين هما آلية انتخاب القادة ديموقراطيًا ودولة قانون تضمن الحريات العامة.

وقال الباحث في مركز جامعة أوكسفورد لمسائل الصين جورج ماغنوس لوكالة فرانس برس إن هذه الأنظمة "ترفض النموذج الديموقراطي الذي نشأنا فيه نحن (الغربيين) والذي نعتبره طبيعياً، في حين أنه ليس كذلك بالطبع، إذ أنه من منظور التاريخ البشري، لا يعود وجوده إلى وقت طويل".

وما يعزز انتشار القادة المتسلطين التيارات الشعبوية التي تعصف بقلب الديموقراطيات الليبرالية، الولايات المتحدة وأوروبا، وقد حملت دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وأدت إلى التصويت على بريكست، وهي تيارات لا تؤيد بالضرورة المنحى "الليبرالي" في أنظمتها الديموقراطية.

"نهاية التاريخ"؟

ورأت الدكتورة في العلوم السياسية رئيسة مكتب "بلانيتينغ" للاستشارات كارولين غالاكتيروس "من المؤكد أن نادي الديموقراطيات الموجهة يتسع، وأن بنية السلطة الصينية تجعل من هذه الديموقراطية بالذات عضوًا بارزًا في هذا التجمع الجديد المقاوم للطموحات الأميركية في الهيمنة" باعتبار الولايات المتحدة أبرز أعضاء مجموعة الديموقراطيات الليبرالية.

وتساءل بعض المفكرين مثل فرانسيس فوكوياما في بداية حقبة التسعينات إن لم تكن البشرية بلغت "نهاية التاريخ" مع حتمية صعود الديموقراطية الليبرالية التي هزمت الشيوعية والديكتاتوريات. لكن العقد لم يكن انتهى حين كتب فريد زكريا في مجلة "فورين أفيرز" عن ظهور "الديموقراطية المنافية لليبرالية" في مواقع عديدة من العالم، وهي ظاهرة لا تزال قائمة إلى اليوم.

وأوضحت غالاكتيروس أن "الرهان بالنسبة لهذه الدول يكمن في فصل نموها الاقتصادي والمالي الذي يستند في أوجه عديدة إلى مبادئ الليبرالية الشاملة ويغتنم كل ما تتيحه العولمة من فرص، عن السيطرة السياسية والاجتماعية على شعوبها... لتجنب المصير الذي لقيته روسيا على سبيل المثال في التسعينات".

يرى المدافعون عن نموذج الديموقراطية الليبرالية أن الخطر عليها بات فعليا اليوم، على ضوء الضعف التاريخي الذي تعاني منه هذه الأنظمة التي تعتبر من الأكثر تطوراً على صعيد الحريات الفردية.

ورأى ماغنوس "إنها مرحلة في غاية الخطورة بالنسبة للحكومة الدولية".

وأوضح مدير منظمة هيومن رايتس ووتش غير الحكومية كينيث روث أن "العديد من المتسلطين خلف نشوء هذه +الديموقراطيات المنافية لليبرالية+ يستغلون مشاعر الاستياء (حيال العولمة والهجرة ونظام التشغيل الآلي وغيرها من المسائل)".

وتابع متحدثا لوكالة فرانس برس "من المهم أن يسلط القادة الديموقراطيون (الليبراليون) الضوء على خواء البرامج السياسية لهؤلاء القادة المتسلطين"، مضيفاً أن "الصين قدمت دعما اقتصاديا للعديد من المستبدين في العالم"، على ضوء العلاقات الاقتصادية الهامة التي تقيمها بكين مع دول مثل فنزويلا وزيمبابوي.

وحذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مطلع يناير "علينا اليوم ألا نستخف بهذه الميول المنافية لليبرالية، وهي ستشكل حتمًا إحدى المعارك التي سيتحتم على فرنسا خوضها، كما أنه سيترتب كذلك على الاتحاد الأوروبي خوضها خلال العام 2018 وأحيانا مع بعض أعضائه".

وأوروبا الشرقية هي من المناطق التي تشهد هذا التصادم بين نموذجي الحكم، ولا سيما مع فيكتور أوربان الذي يعد من أنصار الحكم المنافي لليبرالية، وبولندا المتهمة في أوروبا بالسعي لمحاصرة دولة القانون. وهذا ما حمل الصين مثلاً على استحداث مجموعة 16+1 بين بكين و16 دولة من أوروبا الوسطى والشرقية".

ورأى رئيس مكتب "آسيا الوسطى" الفرنسي جان فرنسوا دي ميليو متحدثا لوكالة فرانس برس أنه "لا يسع دول أوروبا الشرقية في المستقبل سوى أن تذكر أنها إن كانت خرجت من الوضع الذي كانت فيه حتى التسعينيات، فذلك بفضل انجذابها إلى النموذج الأوروبي الغربي، مهما كانت ثغراته ومهما اتهم (بحسب الانتقادات الصادرة عن الصين أو سواها) بالرضوخ للدعاية الأميركية".

لكن الديموقراطيات الليبرالية قد تواجه مشكلة نابعة عنها هي نفسها، مع اختيار شعوبها قادة يشكلون بحد ذاتهم خطرًا على أنظمتها.

وقال روث بهذا الصدد "من الواضح أن الإدارة الأميركية لم تعد محركًا للديموقراطية الليبرالية حين يهاجم رئيسها ترمب عددًا من سلطاته المضادة (الصحافيون والقضاة الناشطون) ويبدي رغبة جامحة في التقرب من قادة متسلطين آخرين".