«إيلاف» من الرباط: يحتضن متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر حاليا، وإلى غاية السابع والعشرين من شهر اغسطس المقبل، معرضا فنيا تحت شعار "أحمد الشرقاوي..بين الحداثة والتجذر"، تكريما لهذا الفنان الراحل، باعتباره" أحد أساتذة التشكيل المغربي".

يتضمن المعرض صورا ووثائق ونصوصا عن ابرز المحطات في تجربته الفنية كواحد من الرواد المؤسسين للفن التجريدي بالمغرب، مرورا بكل التحولات التي بصمت عطاءه الإبداعي المتنوع.

وأوضح منظمو هذه التظاهرة الثقافية والفنية، أن بعض الأعمال الفنية للشرقاوي تعرض للمرة الأولى بالمغرب، وتجسد حضوره في مركزين ثقافيين :" في باريس حيث كان مشاركا في مغامرة الرسم بمدرسة باريس، وفي المغرب الذي ألهمه العودة إلى أصول التراث الفني التقليدي والشعبي برغبة البحث عن طرق جديدة للحداثة".

من لوحات الفنان أحمد الشرقاوي

تاريخ الفن

وقال مهدي قطبي ، رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف، في تقديمه لدليل المعرض"!إننا إذ نأخذ بعين الاعتبار الدور المهم الذي لعبه أحمد الشرقاوي في تاريخ الفن ببلدنا، فإننا ننظر إلى هذا المعرض التقديري المكرس له كمناسبة كبرى للاحتفال بالذكرى الخمسينية لوفاته. معرض لا غنى عنه في التعريف بأعماله وفي فهم التبادلات الفنية والتاريخية بين المغرب وأوروبا خلال فترة الاستعمار، والتي هي عملية أساسية في تاريخ الفن بالمغرب".

واستنادا لما هو مدون في نفس الدليل الفني للمعرض، فقد تفتحت عينا الشرقاوي على الحياة يوم 12 أكتوبر من سنة 1934 بمدينة أبي الجعد، بمنطقة الشاوية (وسط المغرب)، حيث التربة الخصبة التي تضم أيضا العديد من الأضرحة والأولياء الصالحين، وضمنهم بوعبيد محمد الشرقي، ومن هنا اكتسب الشرقاوي انتماءه الروحي ولقبه العائلي الذي رافقه طول العمر.

وهكذا، وبعد أن تلقى من والده التقاليد المتوارثة عن المتصوفين بالمغرب، حسم منذ البداية، وهو في ريعان الصبا، اختياره وهو أن يصبح في المستقبل رساما له بصمته الخاصة، ولم يعد قانعا بالبقاء تحت إمرة معلم تبناه بالرعاية، بل إن تطلعاته تجاوزت حدود الوطن.

ملصق معرض الفنان أحمد الشرقاوي

أسلوب خاص

وسعيا وراء صقل موهبته، التحق بشعبة فنون الرسم لدراسة تقنيات الخط وتزيين اللوحات، بمدرسة مهن الفنون بباريس، فاكتسب مهارات في الصباغة، بحصوله على الشهادة من نفس المدرسة.

كانت تلك هي انطلاقته نحو أفاق أرحب، لاكتساب المزيد من التعلم، في مدرسة الفنون الجميلة بالعاصمة الفرنسية سنة 1960، وأكاديمية الفنون الجميلة بفارسوفيا عام 1961.

كان الرجل يحرق المراحل بسرعة بفضل ما أصبح يتمتع به من خبرات في الصباغة والتعبيرات الجمالية، التي تجمع بين الفنون الشعبية والانفتاح على تيارات العصر المتموجة تحت سماء أوروبا، إلى أن فرض نفسه كرسام له أسلوبه الخاص .

تبدو لوحات الشرقاوي المعلقة حاليا في متحف محمد السادس للفن الحديث المعاصر، بمختلف أحجامها، وتنويعاتها الصغيرة والكبيرة ، كثيفة الألوان، تضج بالحياة كأنها رسمت بالأمس القريب فقط.

العودة والرحيل

ولأنه كان مهووسا بالتجريب، فقد أسفرت اجتهاداته عن إنجازه لمائتي لوحة حملت في مجموعها عدة إشارات خطية، وتركيبات ودوائر، ورموز وعلامات استعمل في تنفيذها كل الوسائل الفنية المتاحة، سواء منها الصباغة الزيتية على القماش، أو التصوير المائي، أو الرسم على الورق المقوى بالحبر الصيني، علاوة على استخدامه لبعض المواد الجديدة كالجلود ورقاقة الخشب وغيرها.

ورغم كثافة الألوان ذات الجاذبية الموزعة على اللوحات برؤية فنية وأنساق متجددة، فإن البياض المنبثق من عمقها، يبقى مثل ضوء خفي يخطف انتباه المتلقي، ويثير إعجابه بروعة الإنجاز.

ويبدو أن الشرقاوي تأثر بشكل واضح، بعالم التصوف الذي لاشك أنه انطبع بذاكرته، منذ سنوات الصبا في أجواء مسقط رأسه في مدينة أبي الجعد، وقد تجلى ذلك بالخصوص في البحث الذي قاده إلى الانخراط في مشروع فني لوضع رسومات لديوان الحلاج.

ولعله من المفارقات التي ينسجها القدر، أن الموت كان في انتظار الشرقاوي سنة 1967، بعد عودته من الاغتراب في أوروبا إلى المغرب، بقصد الاستقرار، مدفوعا برغبة جارفة لوضع خلاصة تجربته رهن إشارة الأجيال الصاعدة الراغبة في استيعاب فن التشكيل، لكن رحيله الصادم وهو في قمة شهرته، وفي عز نضوجه الفني حال دون تحقيق حلمه، بينما ظلت أعماله المعروضة حاليا في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، حية وشاهدة على نبوغه المتفرد.