في مقابل كل ما قيل ويقال عن برنارد لويس المفكر والرؤيوي، ثمة من يصر على أنه كان زارع ألغام في حياته، ورأس حربة للهيمنة على العالم. لا شك في أن هذا الرجل قادر في كل حين على إثارة الجدل.

إيلاف من دبي: الكلام العربي المختلف والملتبس عن الراحل برنارد لويس ليس وليد هذه اللحظة. فالموقف من هذا الرجل اختلف من زمن إلى آخر، ومن ميدان إلى آخر.

في عودة إلى مقالة كتبها إميل أمين في جريدة الاتحاد الظبيانية في 14 يوليو 2016، بعنوان "برنارد لويس زارع ألغام"، يقول إن المؤرخ المصري الكبير رؤوف عباس يذكر في مقدمته لأحد كتب لويس المعنون "الإسلام وأزمة العصر... حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس"، أن مستشرقًا لم يحظَ بشهرة إعلامية واسعة في الغرب، تتردد أصداؤها في العالم كله، مثلما حظي لويس الذي يعدّونه عميد دراسات الشرق الأوسط، وحجة تاريخ الإسلام والعرب، بل وحكيم العصر، وتتسع دائرة الترويج له في جميع أجهزة الإعلام الغربي المقروءة والمسموعة. 

يضيف أمين: "غير أن هذه ليست الحقيقة كاملة، فرغم الشهرة الواسعة، لم يضف برنارد لويس في حقيقة الأمر إلى الدراسات التاريخية المتصلة بالإسلام والمسلمين سوى رسالته للدكتوراه عن الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين، وحتى هذه تجاوزتها بحوث العديد من المؤرخين في الغرب والشرق".

رأس الحربة

يسأل أمين في مقالته: أهو مؤرخ أم منظر سياسي؟ هل كان لويس وطوال عقود مؤرخًا أكاديميًا أم منظرًا سياسيًا؟ هل عرف العالم لويس باحثًا ومفكرًا متجردًا وموضوعيًا أم صاحب مشروع سياسي، وإن أظهر خلاف ما يبطن؟

يجيب: "المقطوع به أن الغوص في عمق المنهج الاستشراقي الخاص بالرجل يصيب الباحث بالذهول، فقد تبنى لويس طوال حياته مشروعًا ظاهره علمي، لكن جوهره سياسي محض، وهو تقديم صورة الإسلام إلى الغرب كما تعكسها مرآة لويس الذي يريد أن يرسخ في أذهان قارئه صورة سلبية للإسلام تخدم توجهه الصهيوني المحض... هل من مصداقية لهذا الحديث؟"

أُعير لويس كثيرًا إلى وزارة الخارجية البريطانية بدءًا من عام 1949 ليلعب دورًا مؤثرًا وفاعلًا في رسم سياسات الإمبراطورية البريطانية، التي كانت وقتها تصارع من أجل شمس كانت في طريقها نحو المغيب، مخلّفةً وراءها حطام إمبراطورية لم تكن لتغيب عنها الشمس. رأى لويس أن المستقبل القادم هو للولايات المتحدة فهاجر إلى الأراضي الأميركية الواسعة، وإن تطلب الأمر منه نحو عقدين كاملين ليستقر به المطاف في جامعة برنستون العريقة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ليضحى وخلال عشرات السنوات "رأس الحربة" الفكرية في مشروع أميركا للهيمنة على العالم، وفي طليعة المفكرين والباحثين الاستراتيجيين النازعين إلى تكريس النظرة الأحادية للعالم، عبر البوابة الإمبراطورية الأميركية، وكان للرجل دور بارز في دعم جماعة المحافظين الجدد بالمدد الفكري والزخم العقلي، للمضي في طريقهم الذي كلف العالم ولا يزال سنوات من الدم والنار والثأر وردات الفعل الانتقامية.

يقول أمين في "الاتحاد": "كان لويس، ولا يزال، وبالًا على الشرق الأوسط وعلى العالم الإسلامي، فهو صاحب الدعوة الأبوكريفية المنحولة لاعتبار العالم الإسلامي متعفنًا بمقاومة جوهرية للغرب، وكان الأمر بالنسبة إليه نبوءة ذاتية، أي محاولة لتحقيق تنبؤات مكذوبة لنفسها بنفسها".

تقسيم المقسَّم

بحسب أمين، اعتبر الكثيرون أن لويس هو صاحب الرؤية الإمبريالية الغربية الجديدة لتقسيم الشرق الأوسط، أو ما يعرف اليوم في الأدبيات السياسية باسم "سايكس-بيكو2"، والحديث عن الخرائط الجديدة لتفكيك العالم العربي تملأ الأجواء الفكرية العالمية. في عام 2002، بعد الإغارة الأميركية على أفغانستان، وفي زمن التحضير لغزو العراق، شهدت تل أبيب أمسية لتكريم برنارد لويس، كان من بين الحضور فيها بوب ولفوويتز نائب وزير الدفاع الأميركي حينذاك دونالد رامسفيلد، والذي تحدث ليلتها قائلًا: "لقد علّمنا برنارد لويس كيف نفهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط، وكيف نستعمل هذا التاريخ ليوجهنا في المرحلة المقبلة من أجل بناء عالم أفضل للأجيال الآتية".

في مارس 2003، يقول أمين إن لويس كان يقدم الحجة الفكرية لغزو العراق حين قال إن هذا الغزو سينبثق عنه فجر جديد، وإن القوات الأميركية ستُستقبَل كمحررة، "الأمر الذي ثبت كذبه باعتراف جورج بوش الابن في مذكراته «قرارات مصيرية»، عندما اعتبر أن ’ما فعلناه في العراق كان خطأ فادحًا‘، لتنهار أسطورة برنارد لويس ومنهجه الاستشراقي أو الاستخباراتي".

لويس يقدم ذاته تارة الباحث الأكاديمي وطورًا السياسي والمنظر الثيولوجي، "وفي هذا الجانب الثاني الخطر الأعظم، لا سيما تجاه الإسلام والمسلمين، فقد أكد دائمًا في كتاباته العداء الإسلامي الحتمي وبالضرورة للمسيحية، بل رفضه لغيره من الأديان والثقافات الأخرى، وذهب إلى أن المسلمين يعادون السامية بدليل موقفهم الرافض لدولة إسرائيل، وفي نهاية كتبه يحرص عادةً على ترويج المنظومات ذات مسحة الإسلاموفوبيا التقليدية، من عينة أن المسلمين لا يحسنون استيعاب ما اقتبسوه من الغرب، ولذلك باءت مساعيهم للحاق بركب المدنية الحديثة، مدنية الغرب، بالفشل الذريع"، بحسب أمين الذي يضيف أن لويس يذهب إلى أن الإسلام والمسيحية دينان لا يطيقان النقاش معًا، وأنهما في صدام دائم لأنهما على عكس اليهودية لا يتوجهان إلى عنصر معين، بل يسعى كل منهما إلى نشر دعواه في العالم كله، ومن ثم تتقاطع طرقهما ويتفجر الصراع بينهما.

إذهب إلى الجحيم

يقول أمين: "كانت هذه الفكرة موضوع مقال نشره لويس في مجلة The Atlantic Monthly عدد مايو 2003، بعنوان استفزازي ’أنا على حق، وأنت على باطل، فلتذهب إلى الجحيم‘، وهو المقال الذي ترددت بعض مقولاته في كتابه "أزمة الإسلام"، ليبقى لويس أبدًا ودومًا حجر عثرة لا زاوية ارتكاز، الأمر الذي يبدو واضحًا كذلك من مقاله في واشنطن بوست ’أوروبا والمسلمون ناقوس الخطر القادم‘، وفيه يطرح تساؤلًا مثيرًا للجدل والخوف لدى الأوروبيين: ما مدى إمكانية أن يصبح مسلم مهاجر، استقر في أوروبا أو في أماكن أخرى من الغرب، جزءًا من تلك البلاد التي استقر فيها مثلما فعلت العديد من موجات المهاجرين؟".

وبحسب كاتب المقالة، هذا التساؤل تتردد أصداؤه اليوم ومن جديد في أنحاء القارة الأوروبية لاسيما في ظل موجات الهجرة التي تهل عليها، وهي في غالبيتها من المهاجرين المسلمين من الشرق الأوسط على نحو خاص، الأمر الذي يرسخ لدى الأوروبي والأميركي المعتدل، وليس اليميني فقط، المستعد أبدًا ودومًا للمجاهرة بعدائه للآخر، حقيقة تكاد أن تكون مغلوطة بالمطلق، وهي أن المسلم في أوروبا سيظل ولاؤه وانتماؤه عرقيًا، دينيًا وأيديولوجيًا، أكثر من ولائه السياسي، وفي التحليل، هناك ربط بالنتيجة التي خلص إليها من قبل في الكثير من أوراقه، وهي أن المسلمين قوة تدمير، وليسوا قوة بناء.

مقالة إميل أمين منشورة على الرابط التالي:

http://www.alittihad.ae/details.php?id=31553&y=2016&article=full