أمستردام: منذ التاسع عشر من شهر مايو الجاري أحتدم الجدل متجدداً حيال المفكر المتعِب لخصومه الذي رحل عن عمر مئة وعام قضى جُلّه في البحث والتبشير والتنظير، ومدافعاً عن أفكاره تجاه الشرق والاسلام السياسي والعرب حتى طّوبتْ منهاجاً لساسة البيت الأبيض من المحافظين الجدد.

مردّ الجدل للقسوة التي عامل بها لويس دول الشرق الأوسط التي لم يتردد في وصمها بالخائبة والناظرة للغرب المتحضر بعين المتخلف الحسود الفاقد لما يتمتع به السيد المرفّه بأنظمة حكم رشيد ومجتمعات وُفرةٍ ساعدتها الجغرافيا في استثمار سهولها في الزراعة ومياهها بصناعة الطاقة فضلاً عن الري والاكتفاء دون الحاجة للآخر، مقابل حياة قاسية بين جبال وصحارى بانت سطوتها على سلوك السكان المتخاصمين مع الجوار على المياه التي لا تسد الحاجة المتزايدة لها فظلت محتاجة للآخر المنظّم المتسيّد بطبعه. وطلب لويس من دول الغرب تصحيح مقولة "لماذا يكرهوننا؟" إلى "لماذا لا يحبوننا؟ بفرض الديمقراطية بالقوة فتصحح نظرة المشرقيين للغرب.

وجدت أفكار برنارد لويس مناخين متضادّين لها في المنطقة والمهتمين بها فهو يهودي منحاز لإسرائيل من وجة نظر عربية إسلامية في غالبها، وهو فيلسوف ذو خبرة لا يتحدث وفق هواه حسب قادة الغرب خاصة في أميركا واليمين المحافظ بشكلٍ أخص ومعهم قادة اسرائيل حد توظيفه مستشار في أجهزة مخابراتها في غيرة فترة من حياته الطويلة. 

ولعل رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل اسحاق شارون استقى نظرته للفلسطينيين من لويس حين ظل يصفهم بالباحثين عن إيذاء الذات في صراعهم مع اسرائيل، إذ تتمحور أفكار برنارد لويس لدول الشرق الأوسط بأن لا علاج لها سوى القسوة حدّ نصيحته لساسة الغرب المهتمين بالشرق (كن قاسياً أو غادر) فلا نفع للديمقراطية التي يدعيها قادة في هذه الدول، حسب لويس، بل يستخدمها قادتها خاصة الاسلاميون منهم تقيةً من أجل التمكن والتمسك بالسلطة التي ستنتج ارهابيين يهاجمون دول الغرب في عقر دارهم إن لم تذهب جيوش الغرب لإمعان القسوة في التعامل معهم وتفكيك دولهم حسب أثنياتها، مستثنياً تركيا واسرائيل بعد يأسه من إيران التي كان يأمل بها، في ظل حكم الشاه بهلوي، أن تشكل ثالوثاً مثالياً يحيط بدول الشرق المتخلفة. وقد يعود أساس نظرة لويس هذه تجاه المشرقيين إلى ماركس الذي، تبنى لويس فكره في بداية حياته، وتنسب له مقولته: "إن المشرقيين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، وإنما يحتاجون إلى من يمثلهم وينوب عنهم".

العرب وتركيا

ترى لو فتحت دول الشرق، والعربية خاصة، أبوابها وأرشيفها، لبحوث لويس وزياراته كما فعلت تركيا هل كان سيبقى على نظرته القاسية تجاهها؟ 

ربما صحح نظرته تجاه العرب، وهو المنظر شبه الرسمي، لقادة واشنطن، كما فعل مع تركيا التي رحبت به ووفرت له ما يعين بحوثه في فتح الارشيف العثماني له فوصفه بمصباح علاء الدين! فتخصص بتاريخها العثماني وظلّ معجباً بتركيا الحديثة حتى قاده هذا الاعجاب إلى نفيه مذابح الارمن في تركيا وعدّها "أعمالاً مؤسفة أودت بحياة أتراك وأرمن على حد سواء". وظلّ لويس متمسكاً باعجابه بتركيا حتى بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية على الحكم فيها وتزايد سطوة أردوغان فيها إذ يقول "أجد أن هذا تطور مقلق للغاية أن يفكر أردوغان بتغير الإتجاه بأكمله، إنه يستولي تدريجياً خطوة بخطوة على كل شيء: البلد والجامعات والشرطة. في الواقع، لقد استولى على كل شيء ما عدا القضاء، ولكن تذكروا أننا لم نخسر القضية بعد. أنا لست مستعداً للتخلي عن تركيا". لعل مردّ تمسكه هذا إلى الأساس العلماني الذي يشكل ذهنية المواطن التركي.

بين لويس وإدوارد سعيد

وصف المفكر الفلسطيني الأميركي ادوراد سعيد برنارد لويس بـ"المفكر الاستعماري القديم وصاحب القدرة الاستثنائية لعمل كل شيء خطأ يخطر على بالك".

ويؤكد سعيد رأيه تجاه المستشرقين الجدد وفي مقدمتهم لبرنارد لويس بنقده لكتاب لويس الصادر بعد 11 أيلول 2001 بأنه كارثة ثقافية وأخلاقية يرتكبها أكاديمي مدع، لا تجربة مباشرة له مع الاسلام على الاطلاق، يجتر ويكرر انصاف الحقائق الاستشراقية، أو اقل من نصف الحقائق، فيكتفي لويس في الحديث عن مليار مسلم حول العالم بالاستناد إلى بعض المراجع التركية وعدد قليل جدا من المصادر العربية أو الاوروبية، لكي ينطلق منها إلى رسم حقائقه المطلقة التي يريد ان يملأ بها رؤوس النخب الغربية وخصوصا الاميركية. إن المرء لا يسمح حتى لطالب في السنوات الاولى بأن يكتب بمثل هذه الخفة الخالية من الاسناد والتوثيق والمراجع. فلويس لا يتوقف عن اجترار جهله ولا عن تغذيته".

لكن لويس يرى أن "أفكار إدوارد سعيد حول الاستشراق لاتاريخانية تماماً، وبعض أخطائه التاريخية كانت سخيفة لدرجة أنني اضطررت إلى اعتبار أن سببها هو الجهل المجرد وليس سوء النية ولكنني عشت لفترة طويلة جدا، والعديد من التغييرات حدثت في العالم الإسلامي".

وفي مسعى من لويس لتصحيح النظره تجاهه بمعاداة الاسلام، يؤكد أنه يعادي الارهاب والتطرف الذي ينسب أفعاله التدميرية لجوهر الدين الاسلامي. فيقول "لا توجد في النصوص الإسلامية الأساسية المقدسة في أي لحظة تاريخية أوامر لإرتكارب جريمة أوقتل. بل ولا تطلب تلك النصوص - في أي وقت - مجرد التفكير أو التأمل في جواز إمكانية القتل العشوائي للأبرياء المحايدين من المارة مثلا".

وينسب للويس دعمه وتحريضه على غزو العراق والسعي لتقسيمه وهو القريب من صقور اليمين المحافظ أمثال هنري كيسنجر وديك تشيني وجورج بوش. كان فكرته حيال غزو العراق أن البلد علماني ويجب أعادته لعلمانيته من خلال استخدام بعض القوة، لكن ابتعاده عن دول الشرق العربي طوال أربعين عاماً حيث ظل ينظر حولها عن بعد لمراكز القرار الغربي جاءت نتيجتها مغايرة حيث نتج عن الغزو صعود الاسلام السياسي في العراق وتمكن القوى الطائفية العشائرية من السيطرة على البلاد وانجرار العراق إلى التقسيم الذي ينسب إلى لويس كداع له، لكنه ينفي ذلك ويقول إنه كان يدعو إلى تقديم مساعدات أكبر إلى الأكراد المتحالفين مع الغرب في شمال العراق كقوة موازية لنظام بغداد.

قسوة

لم يغير لويس نظرته القاسية تجاه شعوب المشرق التي ظل يحذر من استمرار بإن أوروبا تواجه نوعين من الهجمات: الإرهاب والهجرة، وإذا استمر نمط التحول الديموغرافي الحالي فإنهم سيستولون على أوروبا ويصبحون الأغلبية، فتمسك قادة اليمين الأوروبي بتحذيراته وزادوا منها بالتحذير من الاسلام كدين عنفي وهو ما نفاه لويس الذي ظل يؤكد على ضرورة إجبار المشرقيين على تبني الديمقراطية بالقوة بعيداً عن الاسلام السياسي.

لقد عاش برنارد لويس باحثاً تعلم لغات الشعوب التي شكلت مصادر بحوثه وقرأ وتحرى تواريخها واجتهد حيالها ولم يكن منزهاً عن الخطأ والميل لمجمتعه، وربما لامس عنصرية ما في نظرته للمشرق العربي. وطرح أفكاراً لما تزل تثار حولها البحوث والنقاشات كصراع الحضارات الذي كان أول من طرحه وتنبأ به قبل أن يتبناه زميله صاموئيل هانتنغتون عام 1993. 

لقد عاش مؤمناً بأفكاره التي آمن بها ونجح بتلقينها لكبار الساسة في العالم وكوّن له مئات المؤيدين المؤمنين بما طرحه، وهو جل ما يسعى اليه الباحث، بغض النظر عن تأييدنا أو خلافنا معه.