عنوان هذا المقال هو عنوان فيديو قصير وصلني عبر الواتساب، فحواه أن برنارد لويس قد كلف من قبل البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)، قبل حقبة من الزمن، "لوضع مخطط تقسيم 18 دولة عربية الى مجموعة دويلات تعيش ضمن دولة اسرائيل الكبرى".. هكذا بكل بساطة وسذاجة وصفاقة تحدث المعلق على الفيديو. والحقيقة أن هذا هو السائد بين كثير من المعلقين على وفاة هذا الأكاديمي البارز الذي مات قبل بضعة ايام عن عمر ناهز القرن وعامين.

برنارد لويس أكاديمي متخصص بتاريخ الإسلام وبالتحديد تركيا بشكل رئيسي وبدرجة اقل ايران، وأمتد اهتمامه لإسرائيل، كونه يهودي ذا ميول صهيونية، ومعها كان لابد أن يحظى العالم العربي بنصيب كبير من اهتماماته سواء الأكاديمية الصرفة او تعليقاته وكتاباته الصحفية. ولأنه متخصص بارز في دراسات الشرق الأوسط وفي جامعة مرموقة (برنستون) فهو أمر طبيعي أن يستشار من قبل البيت الأبيض او وزارة الخارجية الأميركية. يحدث هذا في كل دولة، يطلب السياسي الإستشارة من الأكاديمي المتخصص المتعمق، ليس فقط في مجال السياسة بل في الإقتصاد والعلوم والزراعة والهندسة والتخطيط العمراني وغيرها وغيرها. بل في كثير من الأحيان، يعين الأكاديمي وزيرا لكي يتولى الجانب التطبيقي مع تنظيره ومعرفته الأكاديمية.

وفي حالة الإستشارة السياسية، يستشير السياسي اكاديميا ذا ميولا مشابهه، لذا كان برنارد لويس اليميني الصهيوني الهوى (والصهيوني هنا تعني المؤيد بقوة للكيان الإسرائيلي) ذا حظوة عند ادارة بوش الإبن خاصة نائب الرئيس ريتشارد تشيني ووزير الدفاع آنذاك دونالد روسفيلد وآخرين، وليس بالضرورة بوش الإبن، لأنه كان رئيسا محدود الفكر والمعرفة. وبالرغم من تلك الحظوة عند ادارة بوش الإبن، الا أن لويس كان معارضا لغزو العراق، وقال هذا أكثر من مرة في لقاءات صحفية وتلفزيونية. كان مثل أي مستشار، يتم الإستماع اليه اتجاه نقاط بعينها قد يؤخذ جلها أو جزء منها في الإعتبار ضمن معادلة معلومات وتحليلات تتدفق من جهات حكومية عديدة منها الأستخبارات، وعلى ضوءها يتخد الفريق السياسي بقيادة الرئيس قراراتهم. وفي حالة القرارات الكبرى مثل الحرب، غزو امريكا للعراق مثلا، كان لابد من موافقة الكونغرس (البرلمان) على ذلك القرار، برلمان يتكون من مجلسين عدد اعضاؤهما 535 رجلا وامرأة، يمثلون كل اطياف المجتمع الأميركي. هنا تصبح اي إستشارة لبرنارد لويس او غيره – تأييدا او معارضة- مثل نقطة ماء في المحيط الأطلسي.

حظي برنارد لويس في حياته وبعد مماته بسيل هائل من المديح والذم، على حد سواء، لأنه اكاديمي نجم كان يظهراعلاميا، عبر كتاباته الصحفية ولقاءاته التلفزيونية، ولأنه كان يلامس صراعات الشرق الأوسط الأكثر حساسية ودموية، اسرائيل، الإسلام السياسي، ثورة الخميني، ازددات متابعته من المهتمين في العالم العربي. كانت مواقفه السياسية حادة وقطعية في كثير من الأحيان، وادعاءاته المعرفية مبالغ فيها، خاصة تلك المتعلقة بالعالم العربي. معرفته باللغة العربية محدودة جدا، حسب طالب امريكي يهودي درس عنده في برنستون، والتقيته في جورجتاون. وهذه النقطة بالتحديد اثارها بشكل كبير وحاد ايضا ادوارد سعيد الذي اتهمه دوما بالجهل بالعالم العربي ولغته وثقافته، حيث لم تطأ قدما لويس ارضا عربية من عقود.

كان ادوارد سعيد كذلك نجما اكاديميا يساريا علمانيا ليبراليا، مثير ايضا للنقد والمديح في نفس الوقت. وكذلك كان تلميذ لويس اللبناني الأصل فؤاد عجمي استاذ جامعة جونز هوبكنز، كان مثيرا للأشمئزاز من قبل الكثيرين - بما فيهم انا- ولكن ايضا الكثير من المعجبين، في الطرف الآخر. وكذا كيسنجر وتشومسكي وبيرجنسكي وغيرهم.

مثل هذه الردود المتباينة امر طبيعي خاصة تجاه المواقف السياسية والتعليق السياسي، لأن الأمور نسبية ولا مجال للقطعية فيها، وهو ما لا يعيه احيانا المعجبون او النقاد لتلك الرموز الأكاديمية. يصبح الكثير منا مثل مشجعي كرة القدم المتزمتين.

العالم العربي والإسلامي يتقسم ويتشرذم منذ لقاء سقيفة بني ساعدة والى اليوم وغدا، قبل لويس وقبل امريكا وقبل اسرائيل بمئات السنين، لأن الإسلام يقدم بيئة خصبة لإستغلال نصوصه من كل القوى السياسية المتصارعة على شهوة السلطة وحكم "الأمة". فما الإنقسام السني الشيعي - كأبرز الأمثلة - الا نتيجة مباشرة لصراع دموي على كرسي السلطة بين علي وعائشة ثم علي ومعاوية ويزيد والحسين، وقس على ذلك كل تاريخ العروبة والإسلام حتى اللحظة.

الدول تتشرذم تلقائيا عندما يحكمها شخص او بضعة اشخاص بعصا من حديد يحاولون بوتقته في شكل ومضمون واحد حسب رؤية تلك العصابة الحاكمة وهواها، دون أدنى مراعاة للفوارق الطبيعية لكل مجتمع مهما كبر أو صغر، اقتصادية واجتماعية وجغرافية وفكرية وثقافية وغيرها. 

تتمركز التعددية في الأنظمة الديمقراطية كأحد اهم الأعمدة التي تقوم عليها تلك الكيانات، وتعني أن لا مجال لسيطرة شخص او أكثر على القرارات الكبرى، او حتى الصغرى، بل من خلال قنوات مؤسساتيه مبنية على اسس المراقبة والمساءلة والمحاسبة والشفافية العالية. دونالد ترامب، رئيس امريكي انتخب بالصدفة الى الحكم واتى الى واشنطن حاملا معه أسلوب ادارته لشركاته العقارية، ليجد نفسه في صدام يومي مع تلك القوى المؤسساتية، ليس فقط في أجنحة الدولة الأخرى مثل الكونغرس او المعارضة من الحزب الديمقراطي او الصحافة، بل حتى داخل منظومة الفرع التنفيذي الذي يرأسه...

نراهم هناك في الغرب ونقيسهم من خلال عدساتنا وحسب معاييرنا وقيمنا المتراكمة عبر القرون. لذا اتفق الى درجة كبيرة مع برنارد لويس في مقولة منسوبة له، بأن الدول العربية غير مؤهلة بنيويا لكي تكون ديمقراطية، لأن تراكمات التاريخ وعمق الإرث المتمثل في حكم الأفراد من خلال استغلال الدين من كل الأطراف، كسلاح فتاك كفيل بتعطيل ذلك عقودا ان لم يكن قرونا، ولعل نماذج ثورات الربيع العربي ونتائجها الكارثية التي نشهدها في ليبيا وسوريا واليمن دليل على ذلك. لكن في الوقت ذاته، العالم العربي جزء من هذا العالم الذي تغير بشكل سريع منذ سقوط الإتحاد السوفييتي قبل حوالي 30 عاما، ومن الغباء أن تتوقع الأنظمة العربية أن الوضع سيبقى هكذا وأنهم محصنين من "موبقات" الديمقراطية التي لم يسلم منها حتى الآن في كل الكرة الأرضية غيرالعالم العربي وكوريا الشمالية والصين وكوبا وزيمبابوي.

 ثورة الأتصالات المذهلة التي نعيشها تحمل بين لوغاريتماتيها قنابل تغيير مدمرة لن ينجوا منها الا من سبق عجلة التاريخ ولو بخطوة واحدة. تقسييم الدول او وحدتها ينبع من الداخل وحسب التركيبة الإجتماعية/السياسية والتاريخية لكل دولة، وليس من خلال أكاديمي اسمه برنارد لويس، او مليون لويس.