كان الشرق مدار بحث برنارد لويس، وكان الاستشراق سبيله إلى فهم حقيقي للشرق أوسطية وللإسلام. وأدرك أن الشرق الأوسط ليس مقبرة للحضارات، بل موطن مجتمعات حية تتطور في اتجاهات مختلفة، وأحيانًا متعاكسة.

إيلاف من واشنطن: ما أن تذكر كلمة "مستشرق" في أي مكان تقريبًا حتى تسمع على الأرجح اسم برنارد لويس بوصفه التجسيد الأمثل لهذا الامتياز. وبمعنى ما، فإن التسمية لا تكون إلا ملائمة: ابتداءً من القرن الثامن عشر فلاحقًا، كان الشرق الأوسط الأوسع مجال بحث لويس الرئيسي، رديفًا لمفهوم "الشرق". 

مخلب قط

لكن، منذ بدأ مجال البحث هذا ولويس نفسه يتعرض للهجوم من إدوارد سعيد في "فضحه" المطول في عام 1978 للاستشراق بوصفه مخلب قط مفتَرض للامبريالية الغربية، أصبح هذا الامتياز مرمى سهام ـ كما يوضح مارتن كريمر في "عودة برنارد لويس".

أنا نفسي ما زلت اعتبر لقب "مستشرق" وسام شرف لمئات الرجال والنساء الذين على امتداد أكثر من قرنين، ساعدوا شعوب الشرق الأوسط ومنها بلدي إيران على معرفة جوانب من تاريخها وثقافتها نستها أو تجاهلتها. لكن، بالنسبة إلى الويس نفسه، فإن نتاجه متعدد الجوانب لا يندرج ضمن أي من الظلال الفردية العديدة لفكر المستشرق. 

على سبيل المثال، كان بعض المستشرقين التقليديين يبحثون عن أبجديات قديمة لفك شفرتها أو آداب ميتة لإحيائها. آخرون عدّوا الشرق ساحة حضارات ضامرة بلغت حدود تطورها وهي تلعب الآن في الوقت الضائع، إذا جاز التعبير. 

آخرون مضوا يبحثون عما هو غريب آملين أن يسبغوا بعض الإثارة أو طبقات مخفية من الروحانية على ما يعدّونه الواقع الجامد للوجود الغربي. وذهب عدد إلى حد الإصرار على أن اعتناق الاسلام جماعيًا وحده ينقذ المسيحية من الانحطاط والهلاك المحتوم.

ثم كان هناك علماء الآثار الذين يعني الشرق عندهم الحفر في المشرق أو بلاد فارس بوعد تقديم قطع أثرية للعرض في متاحف غربية. وهذا لا يستبعد في النهاية الأدنى من الهرم الاستشراقي les turcs de profession (الاتراك المهنيون) الذين كانت مهمتهم تملق الشرقيين لأغراض الربح أو السياسة. 

ليس مقبرة حضارات

لا ينتمي برنارد لويس إلى أي من هذه التصنيفات، ولهذا السبب يكون تطبيق المصطلح عليه اختزاليًا حتى بعد تجريده من دلالاته المريبة الآن. فأولًا، كان لويس ناشطًا في عدة مجالات مختلفة. وهو مؤرخ على قدر كبير من التميز، له سجل من البحث الأصيل الفذ في التراث السياسي والقانوني الثري للامبراطورية العثمانية، وفي التراث المعقد والمختلف جدًا للانقسامات الاسلامية، ولا سيما الفروع الباطنية العديدة للاسماعيلية. 

بعدما أتقن العربية والفارسية والتركية والعبرية، تمكن من الاطلاع مباشرة على التراث المكتوب لهذا "الشرق"، وهذا إنجاز لا يملك الكثير من المستشرقين إلا أن يحسدوه عليه. وفي عمله على التاريخ وترجماته العديدة من الأدب العربي والتركي والعبري والفارسي تمسك بأعلى معايير البحث العلمي التي جعلت على امتداد مئات السنين المؤسسة الأكاديمية الانكليزية أنموذجًا عالميًا. 

ما لا يقل أهمية هو أن لويس أدرك في وقت مبكر أن الشرق الأوسط لم يكن مجرد مقبرة للحضارات والمعتقدات، بل موطن مجتمعات حية وديناميكية يمكن أن تتطور وتنمو في اتجاهات مختلفة، وأحيانًا متعاكسة. وفي حين أن لويس ركز، بصفته مؤرخًا، على الماضي فإنه كان دائم الانتباه بصورة كاملة إلى الحاضر ومرتبطًا به. 

عززت صهيونيته التي اكتسبها في شبابه هذا الاهتمام، خصوصًا حين عادت الدولة اليهودية المستقلة إلى الظهور بعد الحرب العالمية الثانية، وتحولت المنطقة إلى مركز للكثير من الصراعات الدولية. أخيرًا، فإن العالم والمؤرخ والألسني والباحث اللاهوتي أصبح مفكرًا عموميًا كذلك، وهو دور مارسه في أحيان أكثر خلال العقود الأخيرة بشهرة متنامية بعد هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، وطنه الثاني، والتدخلات اللاحقة في أفغانستان والعراق في السنوات الأولى من القرن الجديد.

المنهج نفسه

التقيتُ برنارد لويس في أوائل السبعينيات خلال إحدى زياراته إلى طهران، حيث أُتيح له عقد لقاء طويل مع الشاه. في حفلة عشاء أقامها شقيق رئيس الوزراء وقتذاك، أمير عباس هويدة، تحدث لويس بلغة مباشرة صريحة أمام جمع من كبار المسؤولين والمثقفين عن مخاوفه على البلد. وأعجبتني ملاحظاته النقدية لأنها خرجت عن البرتوكول الموصوف للضيوف الأجانب الذين يزورون البلد. وكان ذلك البروتوكول يتضمن لقاء مع الشاه ورفع حكمته إلى السماء بالمديح وجولة في شيراز واصفهان وتسلم هدايا من السجاد والكافيار والعودة بنفس قانعة. لويس انتقدنا لأنه كان يحترمنا، وربما حتى يحبنا بعض الشيء. 

في السنوات التالية، كنتُ ألاحظ أن لويس يطبق المنهج نفسه على جميع الشعوب التي يدرسها وخصوصًا الأتراك والعرب. وبمعنى ما، كان أفضل صديق للمسلمين في الغرب. فهو لم يتملقهم على طريقة باراك أوباما في خطاباته الفاشلة في اسطنبول والقاهرة. كما انه لم يمارس الأستاذية مع المسلمين على طريقة وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير بمعاملتهم وكأنهم مراهقون غير ناضجين يجب تحمل سلوكهم الغريب بغمزة وايماءة. كان لويس متحررًا على الدوام من "إمبريالية الذنب الغربي" (كما اسميها) التي طبقًا لها يُنظر إلى الشعوب غير الغربية على أنها غير قادرة حتى على ارتكاب اخطائها هي، ناهيكم عن دفع ثمنها. 

الحق أن أمانة لويس ورفضه التزلف هما ما أكسباه جزئيًا هذا العدد الكبير من الأعداء، ليس في الأقسام الجامعية لدراسات الشرق الأوسط وأروقة الدوائر الغربية فحسب بل بين مثقفي اليسار المسلمين الذين يتشبثون تشبثًا عنيدًا بمذاهبهم القائلة بمسؤولية أميركا أولًا لتفادي أي نقد لمجتمعاتهم. لكن، كان هناك وما زال مثقفون وسياسيون مسلمون يقدرون صراحته حتى في شكلها اللاذع. 

خلافان

هكذا اتذكر حفلة عشاء أخرى، هذه المرة في أوائل التسعينيات، في منزل تورغوت أوزال فور توليه رئاسة الوزراء ثم الرئاسة في تركيا. أصر لويس، المؤازر الثابت دائمًا للجمهورية الكمالية العلمانية، امام لفيف من السياسيين والمثقفين الاتراك في الغالب، على أن العلمانية لا تؤدي بالضرور ة - وينبغي ألا تؤدي - إلى سحق الدين على يد الدولة. وفهم أوزال على الأقل أهمية هذا التحذير الذي كان في محله، وكذلك العواقب المحتملة لتجاهله، وانا أعتقد أنه أبقاه ماثلًا في ذهنه خلال عهده. 

بمرور السنين، اختلفتُ مع لويس مرتين. في الثمانينيات، كنتُ أعتقد أن مجتمعات المسلمين في الغرب يمكن أن تصبح مراكز تنوير بحد ذاتها وناقلة "نور" معها إلى البلدان المسلمة. 

رفض لويس فكرتي بوصفها ساذجة وبانغلوسية. وبعد نحو ثلاثة عقود، مع كل ما حدث منذ ذلك الحين في أوروبا واميركا الشمالية، يجب أن أعترف بأنه كان مصيبًا وأنا كنتُ مخطئًا. فان ظلامًا أكثر من النور يُصدَّر اليوم إلى الشرق الأوسط من مجتمعات المسلمين، وخصوصًا في أوروبا.

خلافنا الثاني يتعلق بمقالة لويس في عام 1990 "جذور غضب المسلمين" في مجلة أتلانتيك حيث استخدم مصطلح "صدام الحضارات" لوصف المنافسة بين الاسلام والمسيحية - اليهودية. وكما يكتب مارتن كريمر فان المصطلح ألهم مقال صاموئيل هنتنغتون وكتابه الأكثر مبيعًا بالعنوان نفسه. لكن عندي أن الاسلام ليس حضارة بل دين أسهم تاريخيًا في عدة حضارات مختلفة، والمشكلة اليوم، كما كنتُ أرى، هي تحول الاسلام من دين إلى ايديولوجيا سياسية راديكالية تنظر إلى الحضارة الحديثة على انها عدوها. 

فشل الغربنة

الحال أن وجهة نظري كانت مستمدة في جزء منها من بعض أعمال لويس نفسه عن التاريخ المديد للاحتكاك بين الإسلام والغرب، وكذلك الفشل الحديث لجهود الغربنة في عدة بلدان مسلمة. يشرّح لويس هذا الفشل بطريقة بارعة في كتابه "كيف حدث الخلل؟ الصدام بين الاسلام والحداثة في الشرق الأوسط". لكنه ايضًا يذهب ـ كما أذهب أنا ـ إلى أنه في حين أن الاسلام لا يتوافق قطعًا مع الديمقراطية، فإن الديمقراطية ليست عصية على التوافق مع الاسلام. وعليه فهذا خلاف يقوم على اتفاق أعمق. 

قرر برنارد لويس أن يدرس الشرق الأوسط في الثلاثينيات عندما لم يكن هناك باحث تقريبًا يهتم بالمنطقة. وفي حين أن الحوادث التي وقعت في الماضي البعيد وفرت السياق، فإن عمله المرجعي أسهم مساهمة قيمة في فهم المنطقة المضطربة التي باتت في مركز الاهتمام الأكاديمي والسياسية خلال العقود الستة الماضية. ولهذا العمل أهمية حتى أشد الحاحًا اليوم وهو ينهي قرنه الأول من الحياة.