الخلاف شديد اليوم على الموقف الحقيقي الذي يجب أن نقفه من رحيل برنارد لويس: خسارة... أم إلى الجحيم. هنا، تفتح "إيلاف" ملفاً خاصاً من حياة هذا المؤرخ، لتحيط بها من كل جانب، وتقدم للقارئ ما يروي ظمأه إلى الحقيقة.

إيلاف من لندن: إننا معشر العرب لا نتفق على أمر. هذا صار من الحقائق شبه المثبتة علميًا. ومن أراد إثبات، فليقرأ في اليومين الأخيرين ما قالته ألسنة العرب في رحيل برنارد لويس. فمنهم رفعه إلى مصاف العلماء، ومنهم من خونه ولعنه وساقه بعد موته إلى جحيم "المتصهينين" المتآمرين على خير أمة أخرجت للناس.

ما تورط

في تأبين رجل بثقل لويس المؤرخ والأكاديمي والمؤلف، أضعف الإيمان برأي أهل العلم تجنب الاتهامات بلا أسانيد، وإطلاق النعوت بلا تسديد. فمن ينكر رجاحة عقل الرجل، وثقة علمه، وحضوره الأكاديمي والسياسي في صنع السياسة الخارجية الأميركية ردحًا من الزمان؟

بعد 11 سبتمبر، كان قريبًا من إدارة الرئيس جورج بوش الإبن، خصوصًا من نائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفليد؛ لكن، بشهادة واشنطن بوست، لم يتورط في صناعة السياسات المتشددة ضد الشرق الأوسط، ومنها قرار غزو العراق كما يشيع بعض العرب اليوم، حتى أنه كان ينصح أحيانًا بعدم التدخل في المنطقة. حتى أنه نفى مرارًا أن يكون حرض على غزو العراق، وقال: :لم أفعل إلا المطالبة بحماية الأكراد فحسب، ودعمهم بإعتبارهم حلفاء للغرب ليكونوا قوة موازية في العراق لنظام صدام حسين الحاكم".

ليس من باب الاعتداد بالنفس العربية، إنما يمكن أن يكون هو نفسه قد عرف يومًا، قبل رحيله عن هذه الدنيا، أنه مثير للجدل. ألم يقل لمجلة "كرونيكل" في عام 2012: "بعضهم يراني عبقريًا، وآخرون يعتبرونني شيطانًا".

الأشد تأثيرًا

أيًا تكن الصفات التي أغدقها عليه بعض العرب، أو النعوت التي رموه بها، فقد وصفته موسوعة المؤرخين والكتابة التاريخية بأنه "أكثر مؤرخي الإسلام والشرق الأوسط تأثيرًا بعد الحرب العالمية الثانية"، وهو عرف باهتمامه بالتاريخ الإسلامي والتفاعل بين الإسلام والغرب، وركزت أعماله على معالم تشكيل الشرق الأوسط الحديث: الانقسامات العرقية؛ صعود التطرف الإسلامي؛ النظم الاستبدادية. 

رحل لويس تاركًا وراءه أكثر من 30 كتابًا، ومئات المقالات والدراسات التي ترجمت في أكثر من 20 لغة. شهرته بحوثه في الأرشيف العثماني. من آثاره "أصول الاسماعيلية" و"العرب في التاريخ" والحشاشون فرقة متطرفة في الاسلام" و"الاسلام في التاريخ" و"اكتشاف المسلمين أوروبا" و"مستقبل الشرق الأوسط" و"تعدد الهويات في الشرق الأوسط" و"ظهور تركيا الحديثة" و"تشكيل الشرق الأوسط الحديث".

اتهمه باحثين بالخوف غير المبرر من "صدام الحضارات"، وهي النظرية التي عرف بها، بعدما ساق فيها حديثًا طويلًا عن التضاد الإسلامي المسيحي، إلا أنه لم يغادر فرصة إلا وانتهزها للتشديد على أهمية إسلام يعتنقه نحو 1.3 مليار انسان، وعلى الصعوبات الكبيرة التي تعترض فهم الإسلام، "بسبب وجود صورتين له كاذبتين، فمن جهة لدينا صورة المسلمين البرابرة الذين خرجوا من الصحراء على الخيول ، حاملين السيف بيد والمصحف بيد مخيرين ضحاياهم بين الاثنين؛ ومن جهة أخرى لدينا صورة الاسلام دين المحبة والسلام، الحقيقة هي في مكانها المعهود بين الصورتين".

في الحرية

في مقابلة له مع عادل الطريفي، رئيس التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط، أسر إليه أنه ما كان يُشعر بالضيق حيال منطقة الشرق الأوسط، "فليس ما يقال في الأوساط الإعلامية والأكاديمية بل السياسات التي تطبق على الأرض... نواجه لحظة نحن عاجزون فيها عن التأثير في الأحداث. نرسل الإشارات الخطأ، علينا أن نكون واضحين وأشد إصرارًا على الحاجة إلى الحرية في الشرق الأوسط وعن رغبتنا في مساعدة أولئك الذين يعملون من أجلها".

أضاف: "هناك سؤال عن نوع الديمقراطية التي تصلح للعالم العربي. هناك وجهات نظر مختلفة، الأولى التي يطلق عليها أنها متعاطفة مع وجهة النظر العربية تقول: هؤلاء الناس ليسوا مثلنا ولديهم طرق مختلفة، وتقاليد مختلفة، علينا أن نعترف بأنهم عاجزون عن إقامة ديمقراطية تشبه ما لدينا. وجهة نظر ثانية تقول: هؤلاء هم ورثة حضارة قديمة، مروا بأوقات سيئة غير أن لديهم في مجتمعاتهم عناصر ستساعدهم، وبالتالي علينا أن نغذي هذه العناصر لنمو شكل من أشكال الحكومات المتوافق عليها ولو بشكل محدود".