توقفت "الحياة" في بيروت، متخلية عن الصدور ورقيًا بطبعاتها الثلاث، واكتفت بالإصدار الرقمي. فهل تكون آخر ضحايا التأكّل الاقتصادي الإعلاني في سوق الإعلام؟.

إيلاف من دبي: كان 31 مايو الماضي يوم "الحياة" الأخير في بيروت، بعد ثلاثة عقود طويلة من الصحافة المميزة. فقد أوقفت "دار الحياة للصحافة والطباعة والنشر" طبع نسختها الورقية هناك، مكتفية بنسخة إلكترونية يومية يمكن القراء تنزيلها بصيغة (pdf) لقراءتها.

إعادة هيكلة
في أوائل أبريل الماضي، أعلنت "الحياة" أنه حرصًا على استمرار مطبوعات الدار، "جرى التأكيد مجددًا على إعادة الهيكلة، ليكون مكتب الدار في دبي لتوحيد كل الجهود في غرفة أخبار موحدة، من خلال دمج كل الإمكانات البشرية والمالية لتوفير المحتوى والمضمون لمنتوجات الدار الورقية والرقمية بجودة ونوعية وصدقية ميّزتها لأعوام، ولا تزال"، وذلك في اجتماعات عقدها مجلس إدارة دار الحياة لتداول أوضاعها وشجون الإعلام المرئي والمسموع والمقروء وتراجع الدخل من الإعلانات والتحوّل إلى النشر الرقمي.

تجدر الإشارة إلأى أن "الحياة" صحيفة لبنانية أسّسها الكاتب والإعلامي اللبناني كامل مروة في عام 1946، مقرها العاصمة البريطانية لندن. تصدر من "دار الحياة". تولت رئاسة تحريرها مجموعة من أهم الصحافيين العرب: جهاد الخازن وغسان شربل وغيرهما، وكتب فيها صحافيون وكتاب عرب أعلام.

بعد توقف طويل في وقت سادت فيه أزمات الصحافة الورقية، عادت إلى الصدور في أكتوبر 1988، وحين سمح بتداولها في السعودية في عام 1996، استحوذ عليها الأمير خالد بن سلطان، فأصدرت في عهده ثلاث طبعات يومية: طبعة لندن، وطبعة الرياض، وطبعة بيروت. وفي عام 2005، استقرت "الحياة" في الرياض.

تراجع الصحافة 
لا يمكن أن ننكر أن الصحافة المطبوعة تواجه اليوم أزمات مهنية ومالية كبيرة، في مقدمها تقدم ما صارت تسمّى "صحافة المواطن"، أي تحوّل الناس إلى مصادر إخبارية أخرى غير المصادر التقليدية، فما عادت الصحيفة مصدرًا وحيدًا للخبر، بل تزاحمها شبكات التواصل الاجتماعي، و"بلوغات" الناشطين، والبث المباشر على موقع "فايسبوك" وغيره. 

وبذلك، صار سعي الصحافي إلى تحقيق سبق صحافي يسجله باسمه شبه مستحيل، وبالتالي صار الإعلان الذي ينشر في الجريدة ليقرأها الباحثون عن السبق الصحافي "المفقود" نادرًا، فتراجعت مداخيل الصحيفة إلى حدود دنيا.

إلى ذلك، صار تلقي الخبر هينًا، وهنا مصدر الخطورة كلها. فمع موجات الأخبار الملفقة والشائعات، تراجعت المهنية مع صحافة التواصل التي لا تبحث عن أصول الخبر ولا عن مصادره، ولا تبتغي الدقة والصدقية، وإنما النشر أولًا، ثم التحقق والنكران.

هذه المسائل صعبت على الصحافة التقليدية المتمسكة بأصول المهنة أن تستمر، فالوقت لتأكيد المعلومات، وتوثيقها قبل نشرها ما عاد متوافرًا، ولا تقصّي الحقيقة متاحًا، فالتدفق الخبري الكبير لا يترك مجالًا لالتقلط الأنفاس، وهذا ما لا تستطيعه الصحف الكبرى، و"الحياة" منها كما يقول المراقبون.

أزمة الورق المالية
محزن أن تتوقف صحيفة عربية من عيار "الحياة" عن إصدار نسختها الورقية، لكن لها في كبريات الصحف العالمية أسوة حسنة. فشبح الأزمات الماليّة التي تواجهها وسائل الإعلام في العالم ما زال مسيطرًا على المشهد الصحفي "الورقي"، وقطاع الصحف ما زال يعاني انخفاضًا مزيدًا في عوائده المالية المتأتية من ريع الإعلانات المطبوعة، ما دفع ناشري بعض الصحف إلى شد الحزام وخفض التكاليف، مع إشارة أكثر من مصدر إلى توقعات بتراجع مستمر في الإنفاق العالمي على إعلانات الصحف المطبوعة، بحدود 8.7 في المئة، في انخفاض ربما يكون الأكبر مند الأزمة المالية العالمية في عام 2009. 

ففي بداية أكتوبر الماضي، أعلنت "وول ستريت جورنال" الأميركية وقف إصدار طبعتها الورقية في آسيا وأوروبا بسبب تراجع إيراداتها. وفي أغسطس الماضي، أعلنت "بوينس آيرس هيرالد" الأرجنتينية الناطقة بالإنكليزية توقفها عن الصدور بعد 140 عامًا من العمل، وهي الصحيفة التي عرفت بتغطيتها العهد الدكتاتوري الأرجنتيني (1976-1983)، بسبب سوء الأحوال الاقتصادية والتحوّل إلى الصحافة الرقمية. 

أما في مارس 2017، فتوقفت صحيفة "التجديد" المغربية الورقية، وتوقف أيضًا موقع "جديد بريس" الإلكتروني لأسباب اقتصادية. 
ومن ينسى توقف "السفير" اللبنانية في بداية 2017 عن الصدور نهائيًا، متخلية حتى عن نسختها الإلكترونية.

في مارس 2017 أيضًا، نشرت "إندبندنت" البريطانية عددها الورقي الأخير مكتفيةً بنسختها الإلكترونية، بينما تستمر صحف أخرى بالدعوة الدائمة إلى التبرع مثل "غارديان"، التي تذيل كل تقاريرها بدعوة إلى قرائها لمدّها بالمساعدات كي تستمر، أو بالاشتراكات الشهرية، مثل "إيكونوميست" وغيرها، التي تتيح للقارئ عددًا مجانيًا من التقارير شهريًا مقابل الاشتراك المدفوع.

في العودة إلى "الحياة"، فالصحيفة قررت نهائيًا في مطلع عام 2018 إقفال مكتبها في بيروت، وهو الذي يأوي "الحياة" و"لها" والانتقال إلى دبي، ونقل من يلزم من الكوادر المهنية والصحافية، وصرف الآخرين.​