أقام الكاتب روبرت فيسك جولة ميدانية في لبنان ليرصد واقع جباله اليوم وثروته الحرجية فأسف لكون لبنان أمس ما عاد موجودًا وأن العمران حل مكان الغابات على حساب المواطن والبيئة مرجعًا ذلك إلى الفساد والجشع و"مافيات لا ترحم".

إيلاف من بيروت: كان لدينا أمر من المحكمة بإيقاف العمل بالمقالع، ولكن بعد خمسة أيّام عادت الشاحنات، وسهّلت الشرطة المحليّة دخولها!... هكذا يبدأ روبرت فيسك كلماته لنقل معاناة لبنانية جديدة في تقرير ميداني له نشرته "الإندبندت" واصفًا حال الفساد الذي تشوه البيئة بسببه وأسفًا لأن أصحاب الكسارات لا يبالون بأهم معلم يميز بلده "الأخضر" بغاباته وأشجاره محولين إياه إلى "الأخطر" بيئيًا وجماليًا.

مضار بيئية لا تحصى تخلفها المقالع 

إيلاف: قلّما يجد الصحافيّون أنفسهم عاجزين عن الكلام، ولكن بماذا يمكن وصف التدمير الممنهج للجبال وقلع آلاف أشجار الصنوبر وتغيير معالم جغرافيا أرض لبنان المباركة والعريقة، بفعل أكثر من 3000 مقلع؟، أهي مجزرة الجبال؟.

بين "لبنان جبران".. والآن
هذا النوع من القصص يهزّ العالم، في ما لو حصل في أوروبا أو أميركا. وفي الواقع تمكن تسميته "إخصاء" لبنان. فقد أزالت الحفّارات والجرّافات قمم جبالٍ بكاملها، وكانت حصيلتها أتربة وصخورًا متهدّمة وبحيرات ملوّثة وملايين الأطنان من الرمال والحجارة المسخّرة لتأمين الأسمنت من أجل شقق بيروت ومبانيها الشاهقة الارتفاع وفيلاتها ومدنها المسوّرة وفنادقها الواقعة على ساحل المتوسّط!.

يرى فيسك في تقريره أن الملامة هنا تقع على الطمع والفساد والفقر وأنانيّة الحكومة الطائفيّة. حتّى في هذه الأثناء، بينما تتقاتل الأحزاب الطائفيّة في لبنان على مقاعد في الحكومة الجديدة، تتمزّق أمّتهم إربًا إربًا. لافتًا إلى أن كلّ ما يلزم هو إصدار قانون، تشريع واحد فحسب لوضع حدّ لهذه الفوضى.

وذكر فيسك بقول المؤلّف الكبير جبران خليل جبران الذي كتبه من مئة سنة تقريبًا: "لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام. أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء. لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي. أمّا لبناني فأودية هادئة سحرية تتموج في جنباتها رنات الأجراس وأغاني السواقي. لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب ورجل جاء من الجنوب. أما لبناتي فصلاة مجنحة ترفرف صباحًا. لبنانكم حكومات ذات رؤوس لا عداد لها. أما لبناني فجبل رهيب وديع جالس بين البحر والسهول جلوس شاعر بين الأبدية والأبدية".

ينبوعان متبقيان فقط
فلنذهب إلى ميروبا مثلًا - تابع فيسك في تقريره - حيث يقف إلياس سعادة على هضبة من الطين والصخور المتكسّرة والطرق السريعة الحكومية، التي تنتهي فجأة بهوّة صخرية ارتفاعها 150 مترًا، منحوتة ومنقوشة بوساطة رافعات عملاقة وقاطعات الحجر التي خدّدت مخالبها قلب هذه الجبال. لقد اختفت الجسور والوديان والمجاري المائية!.

جبال ميروبا اللبنانية بعد التدمير.. هكذا بدت

وقال سعادة ساخرًا، لا يخلو أيّ مبنى في بيروت الجديدة من أجزاء من ميروبا في جدرانه وأساساته. فأرضنا بالنسبة إليهم هي الرمل الذهبي، أفضل وأغلى نوع يمكن شراؤه لبناء المجمّعات السكنيّة. ثمّ أضاف، بحسب فيسك، لقد قلعوا أكثر من 120000 شجرة صنوبر، ولم يبق لدينا سوى ينبوعي ماء من أصل 30، وهما ملوّثان.

الجبال إلى زوال؟
تساءل فيسك: "أين هي الجبال التي عرفناها ونظرنا إليها لعقود من الزمن؟" مجيبًا بحسرة وحزن: "لقد أزيلت من الوجود. وما بقي سوى أرض ضائعة، صورة بشعة تعكس حقيقة مريرة. ولماذا؟".

بالنسبة إلى إلياس، السبب هو أنّ من يقوم بذلك هم أشخاص غير متعلّمين، لا يرون سوى الدولارات، ويجنون أموالًا طائلة تؤدّي إلى إثراء غيرهم. هم لا يعرفون كيف يحبّون أرضهم، ولا يأبهون للأمّة أو الحيوانات البريّة أو البيئة. وإذ بنا الآن نتّجه بخطى واثقة نحو التصحّر، كما ينقل فيسك في تقريره.

ابن ميروبا إلياس سعادة الذي أطلق حملة لوقف تدمير جبال قريته

ربما سعادة هو جبران خليل جبران زمننا الحاضر. فقصّته قصّة شجاعة وانتصار سياسيّ، فهو الذي حارب مع تسعة من أهل ميروبا أمام الرئاسات والمحاكم للمحافظة على جبال كسروان. لكنّ حكايته تتخلّلها المأساة أيضًا، فالمناظر الطبيعيّة تتعرّض للتشويه أكثر فأكثر. وخير مثال على ذلك تدمير قمّة جبل في منطقة ترشيش، حيث قيل إنّ الرمال والأحجار مطلوبة من أجل مشاريع حكوميّة. لكن بعد تتبّع مسيرة إحدى الشاحنات المعبّأة بالرمال من جبال لبنان، تبيّن أنّها تصبّ محتوياتها في مشروع خاصّ لإنشاء شركة تبيع الرمال من أجل بناء المزيد من الشقق في بيروت.

عادت بحماية الشرطة
وقد اكتشف أعضاء مجموعة "أنقذوا ميروبا" أنّ 16 شركة كانت تقتلع 20% من مساحة قريتهم. في هذا السياق قال سعادة "هم لم يشتروا الأرض، بل اشتروا عقد إيجار من الحكومة، حتى وإن كانت المقالع غير قانونية. لذلك حصلوا على تصاريح لـ'تنظيف الأرض'!". 

قانون واحد بحسب فيسك كفيل بإنهاء فوضى الكسارات

أضاف: "لقد حصلوا على مساعدة من حكومات سابقة، من وزراء البيئة والداخلية والصناعة ومن السلطة المحلّيّة. وقد حاول آباؤنا وأجدادنا إيقاف هذا الأمر قبلنا، لكن لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي متوافرة لديهم آنذاك". وأشار سعادة إلى أنّهم حصلوا على أمر من المحكمة بإيقاف العمل بالمقالع، ولكن بعد خمسة أيّام عادت الشاحنات مجددًا، وقد سهّلت الشرطة المحليّة دخولها.

كما ذكر سعادة أنّ كلود عون، ابنة الرئيس ميشال عون، ساعدتهم للحصول على اجتماعات مع الوزراء. لكنّ المشكلة تعود إلى 30 سنة إلى الوراء، وكان كلّ وزير جديد يزيل القوانين التي قام سلفه بتمريرها. ثم لجأ إلياس سعادة ورفاقه إلى المحاكم، وتمكّنوا من إيقاف دمار الجبال في ميروبا. لكنّ قرار المحكمة معلّق بخيط، والحفارات موجودة هناك، وجاهزة للعمل في أي لحظة. والجدير ذكره أنّ سعادة تلقّى اتصالات من أشخاص يهدّدونه بالقتل بعد محاولاته هذه.

من الأدباء إلى المرامل!
يوضح فيسك في تقريره أن الكنيسة، لاسيّما المارونيّة، تُعدّ أكبر مالك للأراضي في لبنان، حيث تمتلك 40% من الأراضي، مع أنّ مساحات لبنان تُسلب في مناطق شاسعة، وتؤثّر على المسلمين والمسيحيّين على حدّ سواء.

ويلفت إلى أنه في القرى المسيحيّة "نرى البيوت العثمانيّة القديمة المصنوعة من الحجر، لكن لدى الوصول إلى أعالي الجبال، فنرى المشهد القاتم نفسه. حيث الجبال المقطّعة أوصالها والمدمّرة في ترشيش مع الشاحنات المحمّلة بالرمال والأحجار. وقد أفاد شربل الحايك، مدير الموقع، أنّ الفجوة الهائلة داخل الجبل سوف تُملأ بالمدرجات لإقامة كروم عنب جديدة من أجل تنمية صناعة نبيذ "أديار" المشهور، غير أنّ مشكلة المنحدرات الصخرية المتضرّرة كبيرة جدًا، لتتمكّن من إصلاحها مدرّجات من أشجار العنب. كما قال إنّه يتمّ نقل الرمال والأحجار من الجبال لغرض استعمالها في مشاريع خاصّة بالمطار في بيروت ومشاريع حكوميّة".

يضيف الحايك لفيسك: "لكن بعد تتبّع شاحنة محمّلة بالرمال من جبل ترشيش تبيّن أنّ وجهتها ليست المطار أو حتّى بيروت، بل شركة بناء خاصّة بالقرب من جونية. أمّا مدير هذا المشروع، رامز إسطفان، فقد لام الحكومة على قوانينها المبهمة، وعبّر عن استيائه من الضرر الحاصل للجبال، ولكن قال إنّ عليه أن يجني لقمة عيشه من بيع الرمال". 

وبعد زيارة ميدانية إلى دير مار أنطونيوس في بيت شباب، والتكلّم مع فريديريك كاشيا، صانع النبيذ الفرنسي في الدير، الذي لم تكن لديه أيّ سيطرة على المرامل، وسؤاله عمّا إذا كانت عمليّات الحفر الهائلة في ترشيش ستتحوّل بالفعل إلى كروم عنب، ردّ بالقول إنّه "لا يظنّ ذلك".

سياسة بيع الرمال
أما الأب مارون عودة، المسؤول عن إدارة أراضي أقلّ ارتفاعًا من ترشيش (بينما تخضع قمّة الجبل لإدارة راهب آخر اسمه مارون شدياق) فحذّر أنّه "بعد 10 أو 15 سنة لن تكون لدينا جبال يتجاوز ارتفاعها 1800 متر عن سطح البحر. لكن ما بيده حيلة وليست لديه السلطة لإيقاف أيّ شيء". أضاف عودة إنه عرقل بيع رمال من المنطقة الخاضعة لسيطرته حتّى تتمكّن الرهبنة اللبنانيّة المارونيّة من اتّخاذ قرار في المسألة. لكنّه وافق على فكرة أنّ "بعض من في الكنيسة لم تكن لديهم أي مشكلة في بيع الرمال والأحجار".

أضاف الأب عودة إنّه يرغب في استخراج المياه المعدنيّة من الرمال، وليس استخراج الرمال نفسها، وإنّه ضدّ سياسة بيع الرمال وكذلك الأمر بالنسبة إلى رئيسه، لكن قد يأتي رئيس آخر بعد سنتين أو ثلاثة، ويقوم ببيع الرمال. 

صليب يعلو أرضًا قطعتها الكسارات من جبل ميروبا

هذا وينقل فيسك أن ميروبا تواجه مشكلة كبيرة، وهي أنّ أراضي الكنيسة هي ملك لرهبنة أخرى. وقال الأب عودة: "توجد ممتلكات عدّة في الكنيسة تعود إلى عائلات لا يمكنها بيعها، ولكن لا يمكننا إدارتها. الكنيسة تجني الجزء القليل من الأرباح من الأراضي في ترشيش، بينما يأخذ آخرون الجزء الأكبر". وأشار إلى وجود "مافيا" وراء هذه القضيّة، لكنه كان غامضًا في تحديد من هي هذه تلك المافيا. 

الحكومة تغضّ النظر
الملفت للانتباه - بحسب فيسك - هو أنّ الإعلام المحلّي والعالميّ يقف ساكتًا حيال قضيّة جبال لبنان وبيئته. غير أنّ صحيفة "لوريان لو جور" نشرت ملحقًا في شهر مارس الفائت بقلم الصحافية سوزان بعقليني، وعرضت فيه تحليلًا مفصّلًا وصورًا عن الضرر الهائل الحاصل في لبنان. 

أشارت بعقليني - كما يذكّر فيسك في تقريره - إلى أنّ الحكومة غضّت الطرف عن أصحاب المقالع والكسّارات الذين هم أسياد في فنّ الالتفاف على القانون، وأنّ الحكومة قامت بتمرير قانون في العام 2007 عن الكسّارات، ولكن لم يتمّ رفعه إلى مجلس النوّاب قط، وتمّ تأخير تشريعات إضافيّة في العام 2012، ومن ثمّ اختفت مع سقوط الحكومة في العام التالي. وبدا بالنسبة إلى بعقليني أنّه "تمّت ممارسة ضغوط واراء الكواليس من أجل الإبقاء على تشريعات الكسّارات في أسفل رزمة التشريعات الحكوميّة". 

فرصة قد تخلّد الحريري
ينهي فيسك تقريره بالقول: "لقد أجمع الكلّ، والمقالع، والكهنة، وأهالي البلدة على إدانة الحكومة، والرجل الوحيد القادر على وقف سلب بلاده هو رئيس الوزراء الجديد سعد الحريري. لكن ذكّر نائب سابق في كتلة الحريري النيابيّة، النائب مصطفى علّوش، بأنّه عندما حاول رفيق الحريري، وهو مسلم سنيّ، تطبيق رخص المقالع والكسّارات، ادّعى المسيحيّون بأنّه كان يحاول كسر القوّة المسيحيّة".

يأسف فيسك لكون "لبنان طائفيًا"، لكنه يستطرد معتبرًا أنه "إذا استطاع سعد الحريري تطبيق قوانين لوقف تدمير بلاده، فهو سيصبح أعظم رئيس وزراء في لبنان. ولكن بحلول ذلك الوقت قد يكون فات الأوان".


أعدّت إيلاف هذا التقرير نقلًا عن "الإندبندنت". المادة الأصل منشورة على الرابط الآتي:
https://www.independent.co.uk/voices/lebanon-mountains-environmental-destruction-quarrying-construction-industry-beirut-why-a8388006.html