هل كان المسيح (مسلماً)؟.. مسألة طرحها السناتور سلجاندر بعلم

زين العابدين الركابي


لا نبرح نقول: إن (الفضائل ليست محصورة في (المسلمين)، ولا هي حكر عليهم: فضائل مثل (الموضوعية) (العقلانية)، و(التسامح) و(الرجوع إلى الحق) (الشجاعة الأدبية ): في الجهر والتعبير عما يُعتقد أنه صواب.. ودوما نؤثر منهج: اقتران الدعوى بالدليل الذي يوثقها.

فما الدليل على الدعوى الآنفة؟

مارك سلجاندر رجل أمريكي. كان عضوا في مجلس النواب الأمريكي، وعَلَماً من أعلام المسيحيين الإنجيليين، وناشطا شديد الحماسة في فريق (المحافظين الجدد) بالغي التشدد والتطرف.. وكان - لهذه الأسباب مجتمعة - شديد العداوة للإسلام والمسلمين، مؤمنا بأن العداوة بين الإسلام والمسيحية (ضرورية وأبدية).. هذا الرجل ألف كتابا تخلى فيه عن أفكاره هذه، وأعلن أن أفكاره ومفاهيمه كانت خاطئة بإطلاق. ثم ألقى - في كتابه نفسه - (قنبلة فكرية) من الوزن الثقيل: العميق الحفر، البعيد الأثر. فقد أعلن - بوضوح - : أن المسيح عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - (كان مسلما).

أما عنوان كتاب سلجاندر فهو (سوء فهم قاتل: بحث عضو في الكونجرس عن جَسْر الهوة بين الإسلام والمسيحية).

ولنفسح الفرصة لكي نستمع إلى سلجاندر نفسه وهو يقول - في كتابه هذا - : laquo;إني نائب جمهوري ومسيحي إنجيلي. منذ خمسة عشر عاما كنت أومن بأن الإسلام دين عنف، وأن الإسلام والقرآن (عمل شيطاني) ، وهو - من ثم - شيء يماثل الشيوعية، وأن الإسلام والمسيحية عدوان بالضرورة، وأن الحل الوحيد هو تحويل المسلمين إلى المسيحية.. والآن أقرر أن نظرتي هذه كانت ضيقة وساذجة.. ففي الأعوام التالية بدأتُ رحلة من الشك في معتقداتي هذه، ولذا اكتشفت أنها خاطئة.. وقد تبين لي أن الإنسان عندما يتحرر من المفاهيم والأحكام والتصورات المسبقة، والعادات الفكرية المنتشرة في بيئته الثقافية، وعندما يبحث في الكتب السماوية في أصولها الموثقة ولغتها الأصلية، عندئذ تتبخر الاختلافات، ويزول سوء الفهمraquo;.

ويبدو أن سلجاندر أراد أن ينقل قناعاته الجديدة إلى مجموعة من المبشرين والقساوسة الإنجيليين عبر تجربة مباشرة ومثيرة، فقد تحدث إلى 250 مبشرا وقسيسا وقال لهم: إني سأقرأ عليكم نصوصا من الكتاب المقدس (دون أن يحدد اسم هذا الكتاب) وأخذ يتلو عليهم الآيات 45 - 46 - 47 من آل عمران..، وقد كان هؤلاء يصغون بخشوع وإعجاب إلى ما يتلوه عليهم سلجاندر ويهللون ويشكرون الرب. ولكن عندما أخبرهم بأن الكتاب المقدس الذي استشهد به هو القرآن: تحولت القاعة من هتاف عال إلى صمت تام!!

ثم يصدع سلجاندر بالحق والحقيقة الكبرى، إذ يجهر بأن المسيح (كان مسلما)، ويعلن بأن وصف القرآن له بأنه (مسلم) هو وصف يعبر عن حقيقة دينية ينبغي أن يؤمن بها أهل الأديان كافة.. ولندعه يتكلم: laquo;ذهبت ذات مرة إلى مدرسة لاهوت مسيحية في بنسلفانيا، وكانت مدرسة محافظة جدا، وسألتهم: كم مسلمون هناك؟. فظنوا كلهم أني مجنون!!. وقالوا: أتبحث عن مسلمين في مدرسة لاهوت مسيحية؟. فقلت لهم: أتعرفون كلمة مسلم؟ فرفع أحدهم يده وأجاب: مسلم يعني ذلك أن يستسلم لله. فقلت: هل تعرفون أن القرآن يصف المسيح بـ (المسلم)، وكذلك موسى وإبراهيم ونوح فهم كانوا مسلمين قبل نزول القرآن وظهور الدين الإسلامي وظهور السنة والحديث.. السبب هو: أن كلمة مسلم تعني ذلك الإنسان الذي (يستسلم) لله.. ثم سألت هؤلاء الطلاب: من منكم يريد أن يستسلم لله؟.. فرفعوا أيديهم كلهم بدون استثناء، بمن في ذلك أساتذتهم، لذلك فمن وجهة نظر تقنية (تطبيقية) كلنا (مسلمون)، بمعنى أننا نريد أن نسلم لله الأوحد، وأن نؤمن بالأنبياء واليوم الآخر، ذلك ما أحاول أن أقوله.. لا أعتقد أننا مختلفون في جوهر قضية الاستسلام، فلو حاول المسيحيون إعادة قراءة الإنجيل وقارنوه بالقرآن - مثلما أفعل أنا في كتابي - فسنرى ملايين المسيحيين يقولون: إنه نفس الدين. فالدين لا يتعلق بالمؤسسات بقدر ما يتعلق بالعقيدة.. بشرط أن تتم مقارنة الإنجيل والقرآن في اللغات الأصلية: أي العربية والآرامية التي هي لغة المسيح، ولغة الإنجيلraquo;.

إن القضايا التي طرقها - وطرحها - هذا الرجل الأمريكي المنصف، والذي انتقل من العداوة الشديدة للإسلام إلى التفهم الموضوعي لحقيقته، والتعريف السمح به.. القضايا التي طرقها عديدة: كل منها يتطلب تحليلا وبسطا وشرحا، بيد أن القضية الكبرى في طرحه هي قضية: أن المسيح عليه السلام كان مسلما - وكذلك سائر الأنبياء - ، وأن الإسلام يعني (الاستسلام) المطلق لله.. ولنبدأ الحوار والمناقشة بمسألة تفسير الإسلام بأنه (استسلام) لله عز وجل.. ونقول - في المبتدأ - بأن هذا التفسير صحيح 100%: لغة وشرعا وسلوكا تطبيقيا.. وقبل سياق الحجج والبينات على ذلك نود أن نقارن بين ما توصل إليه سلجاندر في بحثه المخلص المتجرد: في فهم كلمة (إسلام) والاحتفاء بها.. وبين ما زعمه مستشرقون كثر (مغرضون) في التشنيع على هذه الكلمة.. ومن هؤلاء المستشرقين: ولفرد كانتويل سميث الذي قال - في كتابه: (الإسلام في العصر الحديث - (بعد فقرات ثناء على جوانب من الإسلام).. قال: laquo;إلا أن العيب الأساس في الإسلام هو: أنه يطبع تابعيه بالطاعة العمياء والاستسلام التام للهraquo;!!.. أي أنه جعل جوهر الدين الإسلامي تهمة للتشنيع والتعيير.. على حين إن هذا الاستسلام مفخرة وشرف وسلوك صدق، ودليل عقلانية رشيدة، إذ لا يُعقل أن يؤمن الإنسان بالله.. ثم - في الوقت نفسه - يقاوم أوامر الله التي آمن بمصدرها!!.. فهذا السلوك المتناقض (قدح) في العقل، قبل أن يكون تمردا على الإيمان الذي هو نتاج الاقتناع العقلي الحر.

وهذه هي البراهين على أن كلمة إسلام: معناها (الاستسلام):

1- البرهان اللغوي.. في لسان العرب: (الإسلام: الاستسلام والانقياد.. والمسلم: المستسلم لله).. وفي مختار الصحاح: (التسليم: بذل الرضا بالأمر والحكم).

2- البرهان القرآني - وهو منزّل على أصل اللغة العربية -:

أ - : laquo;فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماraquo;.

ب - : laquo;بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنونraquo;.

ج - : laquo;قل إني أمرت أن أكون أول من أسلمraquo;.

د - : laquo;فلما أسلما وتله للجبين. ونادينا أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤياraquo;.. والمعنى: استسلام إبراهيم - وابنه إسماعيل - عليهما السلام لأمر الله بذبح إسماعيل الذي فداه الله بذبح عظيم بعد أن حصل الاستسلام للأمر من الوالد والولد كليهما.

هـ - : laquo;إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمينraquo;.. والمقصود خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

و - : laquo;فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله أنا ومن اتبعنraquo;.

ز - : laquo;قالت رب إن ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمينraquo;.. والقائلة هي بلقيس ملكة سبأ.

ح - : laquo;إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبارraquo;.

ط - : laquo;فإلهكم إله واحد فله أسْلِموا وبشر المخبتينraquo;.

فهذه الآيات كلها تنص - بالقطع - على أن الإسلام هو (الاستسلام) المطلق لله جل ثناؤه، ليس لها دلالة أخرى غير هذه.

ومن هنا نقول: إن ما توصل إليه سلجاندر بالبحث العقلاني الحر المخلص هو الحقيقة اللغوية والدينية عندنا.. ودوما يلتقي البحث العقلي الحر - المتجرد من الأهواء - مع حقائق الإسلام.. ولذلك فإن المخوف هو الجمود على التقاليد: وليس البحث العقلاني الحر.