عبد الحميد صيام

دخل مصطلح الصحافة المهاجرة دائرة الاستعمال بعد أن بدأ عدد من الناشرين العرب يصدرون مجلات أسبوعية وصحفا يومية من العواصم الأوروبية بعد هجرة عدد كبير من الصحافيين اللبنانيين إثر اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. انتقل العديد من الصحافيين إلى لندن وباريس وقبرص ووجدوا أنفسهم بعيدين عن المهنة المتعبة التي يحبونها رغم مخاطرها حيث دفع بعضهم عمره ثمنا لها مثل كامل مروة (1966) وغسان كنفاني (1972) وسليم اللوزي (1980) وحنا مقبل (1984) وغيرهم. بدأت الإصدارات الصحافية بعدد من المجلات أولا كالمستقبل التي كانت تصدر من باريس ثم صدرت في لندن كل من الحوادث والتضامن والمجلة.

إصدار الصحف اليومية في المهجر

كانت جريدة 'الشرق الأوسط' هي أول يومية عربية تصدر من لندن عام 1978 بتمويل سعودي من الأخوين هشام ومحمد حافظ وكانت توزع بالطائرة في أكثر من عاصمة عربية في نفس الوقت. تلتها جريدة الحياة اللبنانية عام 1988 التي أعاد إصدارها بعد توقف طويل جميل مروّة وريث العائلة العريقة التي أسست الجريدة عام 1946 ثم اشتراها الأمير السعودي خالد بن سلطان عام 1990. وتأسست 'القدس العربي' برئاسة عبد الباري عطوان عام 1989، ثم صدرت جريدة الزمان العراقية عام 1997 وتسلم رئاسة تحريرها سعد البزاز. كل هذه الصحف تصدر من لندن وتوزع في الوطن العربي عن طريق السواتل. وبينما تحتل جريدة 'القدس العربي' الموقع الأعلى من حيث التأثير والمصداقية والتصفح الشبكي بسبب اقترابها من نبض الشارع العربي وقضاياه الأساسية، إلا أن جريدة الحياة هي اكثر توزيعا كونها تطبع في أكثر من عشرين مدينة.
تتميز الصحف اليومية الثلاث بكونها عربية أولا قبل أن تكون إقليمية وتخاطب الشعوب العربية مجتمعة وقضاياها المركزية كفلسطين والعراق والسودان ولبنان. فبينما تولي 'الشرق الأوسط' التطورات في السعودية والخليج اهتماما خاصا، تهتم الحياة بشكل أوسع بالأوضاع اللبنانية في حين تحتل القضية الفلسطينية قمة اهتمامات 'القدس العربي'. أما جريدة الزمان فظلت مهتمة بالشأن العراقي وقد كانت هذه الصحيفة من أوائل الصحف التي بدأت توزع في العراق بعد الاحتلال ثم فصلت بين طبعتها الدولية في لندن وطبعتها العراقية في بغداد.

نجاح في أوروبا وفشل في الولايات المتحدة

ولكن لماذا لم ينجح أبناء الجالية العربية في المهجر الأمريكي بإصدار صحيفة يومية تغطي الولايات المتحدة وتنقل صورة عن المهجرالأمريكي للوطن العربي وتمد جسرا بين أبناء الجالية العربية التي يزيد عددها عن ستة ملايين على أقل تقدير ووطنهم الأم؟ صحيح أن هناك عددا كبيرا من الصحف الأسبوعية والشهرية تجدها في كل المدن الأمريكية الكبرى حيث توجد تجمعات عربية كبيرة مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس وسان فرانسيسكو وديترويت وهيوستون وغيرها. لكن هذه الصحف عبارة عن مشاريع تجارية صغيرة وفردية تهدف لاصطياد الإعلانات من المحلات التجارية العربية والمهنيين كالأطباء والمحامين والمحاسبين. وإذا قلبت صفحات الجريدة فلن تجد ما يستحق القراءة إلا تلك المقالات المنقولة عن الصحف العربية كـ'القدس العربي' والحياة والأهرام والدستور والرأي وبعض المجلات دون تفويض أو حتى إشارة إلى المصدر الأصلي للمقال. كما أن معظم القائمين على تلك الصحف (بالطبع ليس كلهم) من المتطفلين على مهنة الصحافة ولا يعرفون أبجديات العمل الصحافي أو الكتابة الصحافية. يتناول أبناء الجالية العربية هذه الصحف من المساجد ومحلات البقالة العربية وصالونات الحلاقة والمطاعم العربية لا بغرض المطالعة والتثقف ومتابعة التحليلات بل للإعلانات أساسا والاطلاع على بعض أنشطة الجالية والأخبار الخفيفة والصور التي تملأ الكثير من الصفحات. وإذا كنت مهتما مثلي بسلامة اللغة العربية فلا تملك إلا أن تنتف شعرك وتصرخ احتجاجا على المجزرة التي تتعرض لها لغة الضاد في هذه الصحف وبشكل فج يكشف عن الاستخفاف بالجوانب اللغوية للكتابة ويفضح جهل القائمين على هذه الصحف باللغة العربية السليمة.
هل هناك إمكانية لإصدار جريدة عربية شاملة تغطي كافة الولايات المتحدة وتوزع بالساتل وتكون على مستوى الصحف اللندنية؟
أعتقد أن الإجابة على الأقل مؤقتا بالنفي. فقد توفر في الصحف المهاجرة في لندن شروط غير متوفرة هنا:
أولا: الدعم الحكومي أو المؤسسي أو الفردي حيث لا توجد جريدة تستطيع أن تعتمد على دخل الإعلانات التجارية فقط؛
ثانيا: مركزية الموقع الأوروبي وقربه من المنطقة العربية وسهولة توزيع الصحف في العواصم الأوروبية والعربية عن طريق الطائرات والقطارات قبل دخول التوزيع الألكتروني حيز التنفيذ؛
ثالثا: وجود عدد من الصحافيين المحترفين في أوروبا والذين حفروا أسماءهم في عالم الصحافة.
رابعا: تتوزع الجالية العربية في الولايات المتحدة على ولايات خمسين تصل المسافات فيما بينها إلى آلاف الأميال. خامسا: غياب المستثمرين الذين يؤمنون بالدور المركزي للصحافة والذين لديهم استعداد حقيقي لضخ الأموال اللازمة لإصدار جريدة يومية محترمة ومهنية تنافس صحف لندن وتجد فيها الجالية العربية ما يوازي أو يضاهي صحف لندن الثلاث والتي توزع في الكثير من تجمعات الجالية في المدن الرئيسية الكبرى.
وأخيرا هناك غياب الاهتمام العربي الرسمي بأبناء الجالية العربية في المهجر الأمريكي والاستثمار فيهم بدل الاستثمار في جمعيات هزيلة وفوقية ومعزولة عن الملايين من أبناء الوطن العربي في الساحة الأمريكية. لقد أهدرت دول النفط أموالا طائلة على جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة لتحسين بعض الصور القبيحة أصلا والتي لا يستطيع أي 'عطار أن يصلح فيها ما أفسد الدهر'. كما تبنت تلك الدول بعض الجمعيات العربية وزودتها بالأموال لعرض صورة إيجابية عن الإسلام والمسلمين والدفاع عن دول عربية بعينها من الهجمات الشرسة الموجهة إليها وخاصة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

ما العمل؟

ما هو البديل في مثل هذه الظروف وكيف يمكن إصدار جريدة مركزية ذات مهنية عالية تستهدف التجمعات الرئيسية للجالية العربية في الساحة الأمريكية كلها وتوزع في الوطن العربي عن طريق الساتل وتكون قناة تواصل بين الوطن الأم والمهجر الأمريكي؟
الحل يكون إما بقيام عدد من المسثمرين العرب هنا في الولايات المتحدة بإطلاق مثل هذا المشروع الهام أو قيام بعض المستثمرين العرب من خارج الولايات المتحدة بإنجاز هذا المشروع كنوع من الاستثمار المربح بسبب الإمكانات الإعلانية الهائلة الموجودة في الساحة الأمريكية. ولا أظن أن مثل هذا المشروع صعب التحقيق بعد أن أصبحت وسائل الاتصال الحديثة قادرة على ربط الملايين بنقرة صغيرة بواسطة فأرة الكومبيوتر. إلا أن الحاجة أصبحت أكثر من ملحة ولا تستحمل الانتظار. وكما بدأت قناتا الجزيرة العربية والانجليزية تكتسحان السوق الأمريكية خاصة بين الملايين من أبناء الجاليتين العربية والإسلامية بالإضافة إلى المهتمين بالشرق الأوسط، فإن صحيفة مركزية عالية المهنية لا بد أن تستحوذ على جزء هام من هذا السوق الكبير.
نتمنى أن يسمع نداءنا أحد من المهتمين بالصحافة ودورها في نقل صورة حضارية عن الأمة العربية، والتقدم نحو الاستثمار في هذا الميدان الحيوي. لكننا تعودنا أن النداءات لا تلقى آذانا صاغية لدى أمة يتفنن أثرياؤها ومترفوها وأصحاب الآبار فيها بإهدار الأموال على كل ما هو غث وضار، كتلك القنوات الغنائية التافهة التي تصل أعدادها إلى المئات وتعمل على تخريب عقول الأجيال الجديدة حيث ترسم لهم عالما خياليا من الثروة والترف واللهو واللذة واللامبالاة، أو تلك القنوات العديدة التي تحشو أفكار الشباب بفكر ديني أصولي متحجر مفصول تماما عن الواقع المرّ الذي يرزح تحته ملايين الفقراء والمهمشين وسكان مدن الصفيح والمقابر بهدف تحييدهم وتخديرهم لتقبل الاستكانة والشعور بالغلب والرضوخ 'للمكتوب' و'القسمة والنصيب' والانصياع لعقلية 'ماحلاها عيشة الفلاح' بانتظار جنات تجري من تحتها الأنهار بينما يزداد الأغنياء غنى وعربدة وفضائح.