يحيى الأمير


تخيل أنك لو استوقفت سعوديا لتحاول إقناعه بأن جوال الكاميرا الذي يحمله محرم شرعا، وأن هناك فتوى تفيد بذلك؟ بالتأكيد لن يجد ما يجيبك به سوى أن يستلقي على ظهره من الضحك، ويضع يده في جبهته ثم يقبلها، وهو يتمتم بكلمات يحمد فيها الله على نعمة العقل والعافية، إلا أن هذه النكتة تصبح حقيقة جارحة وصاخبة جدا حينما تتذكر تلك الثورة الهوجاء التي اعترت مجموعة من الفقهاء التقليديين والمتشددين والذين وصلوا إلى فتوى بتحريم هذا النوع من الجوالات، مما يعد إشارة إلى الصدمة المستمرة التي يعيشها الفقيه التقليدي، والذي تمثل تقليديته غالبا مدخلا واسعا للتشدد والتنطع والخوف من الحياة وتحولاتها.
لاحظ أنك قد تتوارى خجلا أمام هذه الفتوى حين يسألك عنها مسلم من خارج وطنك، لم يعش هذه الأزمات المتتالية التي سببتها جوالات الكاميرا والقنوات الفضائية وغيرها من المضحكات التي استنزفت كثيرا من الوقت والجهد السعودي في الإصغاء إليها.
يبدو أن المواجهة الآن انتقلت من مواجهة الوسائل الحديثة إلى مواجهة السلوكيات المتجددة بفعل تطور حياة الناس، وخروجهم من ذهنية الحياة البسيطة إلى ذهنية حياة المدينة والعمل والحقوق والمؤسسات، وهو ما نقل ساحات المواجهة من جوالات الكاميرا والأطباق الفضائية إلى الاختلاط والابتعاث وعمل المرأة.
المواجهة مع السلوكيات يبدو أنها ستكون أكثر حدة، لأن اتجاه الناس إلى سلوكيات أكثر انفتاحا أمر لا يستوعبه الفقيه المتشدد ويمنحه شعورا بأنه بات أقل المصادر تأثيرا في حياة الناس بعدما انصرفوا عنه باحثين عن حياتهم، ولذلك فقد تصل حدة المواجهة إلى ما وصلت إليه بعض الفتاوى التي تحمل سيف التهديد والوعيد والتكفير.
لقد أربكت هذه الفتوى المشهد الفقهي التقليدي كثيرا، وشعر أنها وضعته في حالة لا يمكنه البراءة منها إلا بمحاولة تأويلها أو التقاط كلمة هنا أو فاصلة هناك ليقول للناس بأنكم لم تفهموا تلك المعادلة المعقدة التي كان يقصدها الشيخ.
لطالما ظل السعوديون أكثر تحملا لهذه الفتاوى وأكثر بلاغة في الرد عليها من الصحف ومقالات الرأي ووسائل الإعلام ، فهم يتعاملون معها بصلف تام، بل وبيقين متزايد أن حياته لا يمكن أن تدار من خلال هذا النوع من الفتاوى، والتي لا ترتبط فقط بشيخ أو بآخر بل ترتبط بذهنية فقهية يوشك الناس على طردها من حياتهم واستبدالها بما هو أقرب لهم ولقيمهم ولفطرتهم، خاصة أنهم هم المستهدفون بهذه الفتوى، فالفتاوى التي تصف من يسمح لأخته أو زوجته بالعمل مع الرجال بأنه ديوث، وهو المشهد الذي لا تكاد تسلم منه كثير من العائلات السعودية التي يعمل بناتها في المستشفيات أو البنوك أو غيرها من المؤسسات، هؤلاء الناس هم الخصوم الحقيقيون لهذه الفتاوى، والسعوديات اللواتي ينخرطن في العمل في المستشفيات وفي الشركات والمؤسسات، والسعوديون الذين تعلو منازلهم عشرات الأطباق الفضائية لن يحترموا على الإطلاق من لا يرى فيهم سوى نموذج للدياثة.
إن صناع الاختلاط الحقيقيين هم الذين يصرون على إهدار الحياء العام يوميا، وهم ينافحون وتنتفخ أوداجهم تحريما وتجريما لفكرة تأنيث العمل في محلات الملابس النسائية، والتي تعد من أكثر مظاهر الاختلاط خدشا للحياء، ولكن التقليدية العمياء التي يسير فيها هؤلاء الفقهاء هي التي تجعلهم بهذا المستوى من التخبط والتناقض. والذين أهدروا سنين عمرهم وهم يجابهون الخطر الأكبر المتمثل في قيادة المرأة للسيارة واستبدالها بسائق أجنبي يرافقها طوال اليوم هم الذين حولوا الاختلاط من مسألة اختيارية إلى مسألة جبرية، وهذه إحدى لحظات التناقض التي قبض فيها السعوديون على الفقه متلبسا بما هو ضدهم وضد فطرتهم.
على أن ما هو قائم الآن يثبت ذلك وأكثر بل يؤكد أن الفتاوى العتيقة والحادة لم يعد تأثيرها يتجاوز التأثير الإعلامي، وإذا كان الغرض الأصلي من الفتوى هو تبيان حكم فقهي للناس ليسيروا عليه، فالواقع السعودي يشير إلى أنه ومنذ سنوات بات الناس أكثر تفريقا بين الفتاوى التي توتر علاقتهم بذواتهم وحياتهم، وبين الفتاوى والأحكام الفقهية الرشيدة والواعية التي تمنحهم طمأنينة الفطرة لا توترها، فباتوا يلقون وراء ظهورهم كل ذلك التشدد، ويمكن ببساطة استعراض قائمة المحرمات المتشددة التي صاح وناح عليها كثير من الوعاظ المتشددين كيف أنها باتت من المظاهر اليومية لحياة الناس. مما يؤكد أن جدوى تلك الإعلانات الفقهية القادمة على هيئة فتوى لم تعد تتجاوز الأصداء الإعلامية التي تثور حولها فقط. وبإمكانكم أن تبحثوا فقط في أوساط العائلات التي تعرفونها عن عدد النساء اللواتي سيتنازلن عن أعمالهن ومستقبلهن مقابل أية فتوى حتى وإن جرحت مشاعرهن بوصفها لآبائهن وإخوانهن بالدياثة.
إن الذين لا يخافون في الله لومة لائم بالفعل هم العقلاء الذين فرضت عليهم أمانتهم أن يوضحوا للناس ما في هذه الفتاوى من تشنج واستعجال وتقليد أصم، وأما الاقتناع بهذه الفتوى من عدمه فالناس هم الأقدر في القبض على كل متلبس بفتوى متشددة والحكم عليه بالبقاء خارج حياتهم.